الاستبداد كاغتراب سياسي
قد يمكن تعريف الاستبداد بأنه شكل من الاغتراب السياسي، من حيث أن هذا يعني انفلات شروط حياة الناس من بين أيديهم ومداركهم، ومثولها كأقدار خارجية متعالية، ومن حيث أن الاستبداد (في صيغه العربية التي نعرفها على الأقل) يتسم بتعطيل قدرة المحكومين على التنظيم والتعبير المستقلين، بما قد يساعدهم على التحكم بمصيرهم والسيطرة على شروط حياتهم. وقد توصف «الأقدار» تلك بأنها الغضب الإلهي، أو «المرحلة التاريخية الحرجة...»، لكن تسميتها إسرائيل أو أميركا أو الامبريالية أو العولمة... لا تقول شيئا مختلفا. لا نعني أن إسرائيل وأميركا والعولمة... اختلاقات منا، ما نعنيه هو أننا ننكر مسؤوليتنا عن نوعية تفاعلنا الراهن مع هذه القوى والعمليات من جهة، وأننا نتوسلها لإبقاء أوضاعنا كما هي لا لتغييرها وتوسيع هامش مبادرتنا الفاعلة في العلاقة معها من جهة ثانية. وإدراكنا لهذه القوى مشوه أو مغترب هو ذاته، فلا تبدو قوى دنيوية تاريخية، لا يقتضينا فهمهما مفاهيم ومناهج مختلفة عما قد نحتاج لفهم قوى دولية وعمليات تاريخية أخرى، بل هي كائنات شريرة جوهريا، تحمل شرها وفسادها وعداوتها لنا في طبيعتها بالذات. ثمة شيء شيطاني متأصل فيها، وصراعنا معها صراع خير وشر، حق وباطل، صراع مطلق أو «وجودي». لا نكون إن كانوا، فإن كنا لا يكونون. والمعنى العملي لذلك هو تثبيت أوضاعنا الراهنة إلى أن تهزم الامبريالية والصهيونية والعولمة، بمعجزة ما في يوم ما. وهو ما يناسب تماما دوام أطقم الحكم الاستبدادي في بلداننا.
ومن سمات التفكير المغترب هذا أيضا «شخصنة» العلاقات الدولية (عبر مدرك «الامبريالية» بخاصة) وما هي عمليات تاريخية كالعولمة (معادلتها بالأمركة...)، أي النظر إليها كأشخاص فاعلين مغرضين. ومن المفهوم أنه ما إن يلج الأشخاص مسرح التفكير والسياسة حتى تتبعهم نظرية المؤامرة التي تقرر أن المؤامرات الأجنبية، وليست أفعالنا وسياساتنا، هي سبب بؤس أوضاعنا. يسعنا القول تاليا إن نظرية المؤامرة هي أعلى مراحل الاغتراب السياسي. ويقرر التفكير المغترب أن الغريب هو أصل الشر، أو إن شئنا مصدر غربتنا في العالم والعصر. ولما كان يمكن تعريف الوطن والوطنية بالتعارض مع الغربة والاغتراب، فإن الوطنية المعادية للغريب هي الحل الجذري لاغترابنا. بيد أن هذه حل زائف ومغترب هو ذاته، يسلب أكثرية «المواطنين» إمكانية التأثير على ظروفهم، ويضعهم تحت رحمة سلطات غريبة و«أجنبية» بأتم معنى الكلمة، بمعنى أنها تعرقل توطنهم في عالمهم واستيعابهم له والسيطرة على شروط حياتهم فيه. إنها وطنية منتجة لأقسى أشكال الاغتراب السياسي، الاستعباد. وفي ظل وطنيات معادية للغريب، يستنفد الاستنفار الموصول والعقيم ضد الأعداء الغرباء ومؤامراتهم قدرة الجمهور على المبادرة والتفاعل والفهم، ويؤول به إلى اللامبالاة والسلبية. أي بالضبط إلى الاغتراب عن مصيره. وهو ما يبدو مناسبا جدا للسلطات وإيديولوجييها. فالوظيفة الجوهرية للوعي المغترب هي إخفاء الجهة صاحبة التأثير الحاسم على شروط حياة السكان والمتحكمة بمستقبلهم والموجهة لمصائرهم، أعني السلطان الاستبدادي.وعلى هذا النحو يصير الناس موضوعا لشروط حياتهم بينما تغدو الشروط هذه هي الفاعل والمحرك. فالاغتراب السياسي بوصفه مثول شروط حياتنا كأقدار خارجية لا قبل لنا باستيعابها وضبطها والتحكم بها متولد عن شل قدرة السكان على الفهم والإدراك، وعلى العمل والمبادرة. وفي محاولة لتملك هذا الشرط إدراكيا يطور الشعور العام مقاربات يتناسب تجريدها مع شدة انفصال السكان عن القوى المشكلة لأوضاعهم، أي مع درجة اغترابهم. ولا ريب أن انتشار الإسلامية الاجتماعية وصعود الإسلامية السياسية متصل بهذا الشرط المنفلت تمام الانفلات. فحيال أوضاع تتعذر الإحاطة بها والتحكم بمساراتها، توفر الإسلامية تفسيرا متاحا في متناول اليد (الابتعاد عن الدين...) وعاما شديد العمومية (بحيث يتعذر اختباره ودحضه) ومولدا للشعور بالذنب (بحيث يفل الحس النقدي). وهو بالطبع تفسير مغترب بدوره، يحيل إلى مبادئ مجردة لا سبيل إلى التأثير عليها. ولا يطعن في اغتراب الإسلامية ذلك الالتباس الذي يغذيه الإسلاميون بين الاغتراب كما عرفناه (انفلات شروط الحياة من سيطرة الناس العقلية والعملية...) وبين التغريب (انتشار تنظيمات غربية، سياسية وحقوقية وثقافية...) الذي يجعلونه وحده منبعا للاستبداد والفساد والضعف في مجتمعاتنا. وهم في ذلك يخلطون بين مفهومين للخارج (أو الأجنبي أو الغريب). مفهوم يبرزونه، يحيل إلى الخارج بالمعنى الجغرافي الثقافي (لأسباب تاريخية ينصرف هذا المعنى تحديدا إلى الغرب)؛ ومفهوم يتكتمون عليه يحيل إلى ما هو «خارجي» على الفاعلية البشرية وكتيم حيالها ومتعال عليها. وهو ما يتيح لهم المطابقة بين ما هو «داخلي» («الإسلام») وما هو تحرري، على نحو ما تطابق السلطات الاستبدادية بين الوطنية المعادية للغريب وبين الوطنية التحررية والديمقراطية. وهكذا يولِّد الاستبداد الاغتراب السياسي الذي ينحل ويجد وذروته في آن معا في الشكل القياسي لكل اغتراب: الاغتراب الديني. وقد يبدو كلاهما نقيضا تاما للاغتراب. فأحدهما يحيل إلى الأصل والهوية، أصلنا وهويتنا ومصدر تجذرنا في العالم؛ والآخر يحيل إلى «الوطنية»، مقام إلفتنا وحريتنا الأكيد. غير أن ما يغلب عليهما من تكفير وتخوين موجهين لعزل المعترضين على الاستبدادين السياسي والديني يكشف أنهما، بالأحرى، حارسين للغربة والضياع لا لسكنى العالم وتوطنه والسيادة فيه.* كاتب سوري