ما أثارته رواية يوسف زيدان الأخيرة من غبن لدى الكنيسة في مصر ليس سوى مظهر جديد من مظاهر التضييق على حرية التعبير والإبداع باسم الدين. والجديد في الحالة المصرية أن الاعتراض على بعض الأعمال الأدبية والفنية لم يأت هذه المرة من الأزهر أو جماعة «الإخوان المسلمين»، لكنه جاء من قساوسة ورهبان، اعتبروا أن الرواية، التي تحكي عن فترة اضطهاد المسيحيين للوثنيين المصريين إبان دخول المسيحية إلى أرض النيل، تنطوي على مضامين تسيء إليها.

Ad

ورغم أن كثيرا من الأدباء الذين يدينون بالإسلام أبدعوا روايات تاريخية عديدة تتحدث عن بعض التجاوز والتمييز الذي جرى ضد المسيحيين عقب الفتح العربي لمصر وآخرها رواية «البشموري» لسلوى بكر فإن الأزهر لم يعترض على هذا، وهي مسألة لافتة تختلف عن موقف تلك المؤسسة الدينية الكبرى من أعمال أخرى اعتبرتها تسيء إلى العقيدة الإسلامية. أما الكنيسة فقد راح اعتراضها يتصاعد على أعمال إبداعية، وبدأ هذا الأمر بفيلم «بحب السيما» الذي ألفه وأخرجه مسيحيان، ولم يرق للكنيسة رغم أنه يلبي طلبا ملحا لها بالاهتمام بالمسيحيين في الأعمال الدرامية والسينمائية المصرية، وهو ما أخذ يتحقق في العقدين الأخيرين.

لكن يبدو أن الكنيسة تريد أن يظهر المسيحي في الدراما والسينما المصرية بالطريقة التي تروق لرجال الدين، وليس لمقتضيات الفن. أي أن تطل الشخصية المسيحية على الناس من الشاشات الزرقاء والبيضاء وهي مكتملة، بيضاء لا شيء فيها، على طريقة «البطل الإشكالي» في الروايات الرومانسية، الذي يجسد الخير كله والطهر كله ويبشر بالقيم الإيجابية والنبيلة كلها، بينما يظهر أعداؤه أو منافسوه في مظهر الشر الخالص والجهل الكامل. وبالطبع فإن الفن تجاوز هذا الأمر بعد أن خرج عن مراحل الوعظ والوقوع في فخ الإيديولوجيات البائسة. وبالتالي تبدو أمام أعيننا الشخصيات المسلمة في الدراما والسينما على طبيعتها، كما هي موجودة في الحياة، من لحم ودم. بل ان السينما المصرية طالما فضحت فقهاء وشيوخ مسلمين تاجروا بالدين، أو اتخذوه مطية لتحقيق أغراض دنيوية بحتة، وفرقت طوال الوقت بين هؤلاء وبين الدين نفسه، وعرضت الوجه الآخر المتمثل في متدينين حقيقيين، يسعون إلى الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي.

وما تطلبه الكنيسة من الفن يناقض قوانينه، ويحجر عليه، ويقيد انطلاقه. ففيلم «بحب السيما» يعرض حياة أشخاص مسيحيين، ولا يدعي أبدا أنه يطرح المسيحية نفسها كما هي موجودة في الإنجيل. ودائما هناك هوة بين ما تفرضه «النصوص» الدينية وما يفعله البشر حين يطبقونها في حياتهم العادية، وتتسع هذه الهوة حين يحجم هؤلاء عن تطبيق التعاليم الدينية، لكسل أو عناد أو إلحاد. أما «عزازيل» فإنها هي الأخرى عمل فني ينتمي إلى ما يسمى «الرواية التاريخية» التي نشطت في السنوات الأخيرة، واشتد ساعدها، وحفرت لنفسها مكانا مميزا في عالم الإبداع الروائي، وبلغت حدا من الحرفية والتجلي الإبداعي إلى درجة أن بعض علماء التاريخ أخذوا يلتفتون إليها، ويعتبرونها مصدرا من مصادر المعرفة التاريخية، خصوصا إن كانت مستندة إلى وقائع ووثائق معروفة أو حقيقية، لكنها لا يمكن الاحتجاج بها على وقائع معينة، وإن كانت تضيء الجوانب المظلمة في التاريخ الرسمي المكتوب، حين تركز على حياة الناس، وليس تاريخ السلطة.

وترفض الكنيسة الأرثوذوكسية «عزازيل» مع أن بعض كتب التاريخ التي ألفها مؤرخون أوروبيون وعرب تقطع بحدوث اضطهاد ضد الوثنيين الفراعنة على يد المسيحيين وصل إلى حد هدم معابدهم وقتل رموزهم الدينية والفلسفية في مطلعهم الفيلسوفة السكندرية هيباتيا، ومع هذا فإن رجال الكنيسة لا يروق لهم الاقتراب من هذه المساحة التاريخية التي شكلت حيزا زمنيا لرواية زيدان.

لكن العقلاء من الجانبين يطالبون بالخروج من سجن التاريخ والتركيز على الحاضر المعيش، نظرا لأن هذا المنحى يرفع المسؤولية عمن يعيشون الآن وهنا، عما جرى في القرون الغابرة، فلا يطيل المسيحيون في الحديث عن تمييز مورس ضدهم بعد دخول الإسلام مصر، ولا يفتش المسلمون عما ارتكبته الكنيسة في حق «الوثنية» المصرية بعد دخول المسيحية مصر، ويتيهون على المسيحيين بإنقاذهم من اضطهاد الرومان القاسي.

ورغم أن التاريخ مليء بالمواقف المشرقة والمشرفة للطرفين والتي تظهر أن مصر تغلبت دوما على أي نعرات طائفية في تاريخها المديد، فإن الاكتفاء بهذه المواقف الإيجابية يبدو أنه لا يفيد في الوقت الحاضر، بينما يؤدي استدعاء المواقف الشائنة من ذمة التاريخ التأثير سلبيا على مجريات الوضع الراهن.

* كاتب وباحث مصري