وللنّاس فيما يعشقون مذاهب
أعلم أن الشعر العامّي لا يقع ضمن دائرة اهتمام كل الناس، وليس حريّ به أن يكون كذلك، فهناك من الناس من يستتفهه ويحقّره ولا يقيم له وزناً ولا يراه أدباً أو إبداعاً يستحق الحديث عنه، وإن مِنْ هؤلاء مَنْ يدّعون بأنهم مثقفون وأدباء ومهتمون بالشأن الثقافي، وأنا هنا لن أجادل في ذلك، ولن أقف موقف الدفاع عن هذا النوع من الأدب، أو بيان الحجة على من أنكر، بل أعتقد أن من حق الكل أن يحب ما يشاء وأن يرفض ما يشاء، طالما أن ذلك لا يصل إلى حد محاولة إلغاء ما يحب الآخر وما يريد، فكما أن هناك من المثقفين من لا يستسيغ الشعر العامّي، فهناك من الناس أيضا من يستخفّ بالشعر كله فصيحه وعاميّه ويستسخفه، ويفضل عليه لعبة كرة القدم مثلا أو أي هواية أخرى، فهل نلغي الشعر تماما إرضاء لرغبة هؤلاء؟... وحتى لو فعلنا، فهناك شريحة من الناس لا تحب كرة القدم، وأخرى تعتقد أن الموسيقى والغناء لهوّ ومجون، وغيرها ترى أن التمثيل ليس إلا تهريجا ومضيعة للوقت، وهكذا ترى المتعصبين لمّا يحبون يقاتلون لإلغاء ما سواه، فيملأون المنابر زعيقاً، والصفحات وعيداً، ومنهم من يعلم علم اليقين أنه لن يغيّر في واقع الحال شيئاً ومع هذا لا يكفّ ولا يرعوي، فهذه النوعية ليس لديها ما تقدمه لو هي توقفت عن محاربة الآخرين والوقوف في طريقهم، وهي متأكدة بأنها ستكون على هامش الحياة لو تفرغت لإنتاج ما يفيد، لأنها ببساطة ليس لديها ما يفيد!أما النوعية الأخرى فهي تؤمن أنها قادرة على تغيير الأمر، وما هي إلا مسألة وقت وتفعل، وهذا النوعية لا تدري، ولا تدري أنها لا تدري!
إن التعايش السلمي بين أنواع الإبداع المختلفة يُُثري الحياة الثقافية، ويدفعها إلى التقدم والعطاء ضمن مناخ صحي يحفز على الإنتاج والبذل، وإن احترام ما ينتجه الآخر، والنظر إليه بموضوعية، ومن دون أحكام مسبّقة يساهم في خلق نهضة ثقافية حقيقية، تساهم في دفع المسيرة الحضارية للمجتمع نحو الأمام، ويفترض أن اختلافنا فيما نحب ونهوى لا يتضمن مطالبتنا بإلغاء ما لا نحب، ولا يجوز لنا أن نعتبر الحياة ثوبا نفصله على مقاسنا نحن، وكما ينبغي لهوانا، فالحياة أرحب من ذلك بكثير وأجمل، وتتسع للجميع، وقابلة لاحتوائنا جميعا بكل اختلافاتنا، وتضارب أهوائنا، كما أننا لا نتذكر أن حضارة ما قامت على عنصر واحد من عناصر الإنتاج الإنساني، فعلى حد علمي لم يكن هناك في يوم من الأيام قبل الإسلام حضارة تسمى الحضارة العربية، وذلك لسبب بسيط هو أن الإبداع كان مقتصرا على الشعر فقط أو يكاد، ولكن كان هناك حضارة إسلامية تنوع فيها الإبداع من الشعر إلى الترجمة والموسيقى والقصة والفلسفة، بالإضافة إلى العلوم الأخرى كالطب والفلك والجعرافيا وغيرها.إن التعايش بين أنواع العطاء الإنساني ضرورة حضارية، لا تقوم للحضارة قائمة من دونه.