سيلحظ كل متابع دؤوب للصحافة الكويتية، في الفترة التي تلت تشكيل مجلس الأمة وتكليف وزراء الحكومة، أن الوزيرتين الحمود والصبيح نالتا شهرة كبيرة واهتماماً أكبر من المصورين وليس من المحررين؛ إذ يسعى كل مصور إلى التقاط الصور التي تظهر الوزيرتين، كما تجتهد الصحف في نشر صورهما، وتتخير لها الأماكن المختارة في صدر الصفحات.

Ad

صحف أخرى تعطي الأمر اهتماماً فائقاً، وتجتهد أكثر، فتتخير موقفاً يتحدث فيه نائب بعمامة مع إحدى الوزيرتين، أو يتبادل فيه نائب ملتح الضحكات مع أي منهما، وحين تعدم بعض الصحف وسيلة لالتقاط إحدى هذه الصور المعبرة، فإنها، أحياناً، تعمد إلى تركيب صورة تظهر إحدى الوزيرتين بجانب أحد النواب السلفيين أو القبليين، سعياً وراء ما يخلفه التضاد المفترض في الأفكار والمواقف لدى الطرفين من انشغال لدى القراء واهتمام وربما دهشة.

والواقع أن بزوغ تلك الظاهرة، ثم انتشارها، فاستفحالها يكشف عن غرض واضح يفرزه مرض أوضح، «لكن أكثر الناس لا يعلمون». فما تفعله تلك الصحف ليس سوى صورة من صور «تسليع» المرأة، وهو أمر محط لها ككائن إنساني له ذات الحقوق والمزايا التي يتمتع بها الرجل من جهة، ومحط للحياة البرلمانية المفترض أنها تنظيم موضوعي لسلطات الشعب وصلاحياته الرقابية والتشريعية من جهة أخرى.

و«تسليع» المرأة، أي جعلها سلعة ومتاعاً وبضاعة (في «لسان العرب» السلعة ما تُجر به، وايضاً المتاع، وأيضاً العلق، وجمعها السلع) ظاهرة قديمة قدم التاريخ ذاته، لكنها وصلت ذروتها مع الثورة الإعلامية والتكنولوجية في القرن المنصرم، حين باتت صورة الأنثى أيقونة رائجة، يستخدمها الإعلام والدعاية والإعلان، ويرفقها المسوقون بكل بضاعة؛ سواء كانت شفرات حلاقة الذقن، أو السيارات الحديثة، أو الخدمات السياحية أو المصرفية.

وخاضت نساء، ومنصفون من الرجال، حروباً طويلة ضد استخدامات مشينة ومسيئة لكيان المرأة ودورها في الأغراض الترويجية والتسويقية، ورغم أن تلك الحروب لم تسفر عن حلول ناجعة في مواجهة تلك الظاهرة، فإنها مازالت دائرة للتقليل من تلك الظواهر.

وفي غضون ذلك، كان طبيعياً أن تنتقل المرأة إلى ميادين السياسة كسلعة أيضاً؛ ومن ذلك أن اُستخدمت المرأة، وهي أمي وأمك، وأختي وأختك، وابنتي وابنتك، استخدامات غير موضوعية في قضايا سياسية معقدة وشديدة الحساسية.

ليس الإعلام أول من فعل ذلك في مجتمعاتنا العربية وفي الكويت تحديداً، لكن الحكومات، والبرلمان، والسياسيين، وحتى القبيلة والتيار الديني جميعاً «سلّعوا» المرأة واستخدموها استخداماً ترويجياً غير موضوعي.

فكما يحرص رجل أنيق على وضع «وردة في عروة الجاكيت»، أقدمت حكومات عربية وخليجية عديدة على توزير نساء، امرأة أو اثنتين على الأكثر، بين حشد كبير من الرجال؛ بما يعطي صورة حسنة عن النظام في أعين الأعداء والأصدقاء في الغرب الليبرالي، وبما يضمن تمثيلاً شكلياً لنصف المجتمع المحلي، ويعكس صورة مطلوبة عن «انفتاح الدولة، وسماحة النظام، ورشد الحكم وعدالته».

تفعل الحكومة هذا عند اختيار أعضائها، وحين تشكل وفداً تفاوضياً، أو تعقد مؤتمراً تحضره أطراف أجنبية؛ فـ «وجود امرأة في وفدنا يعطي نظراءنا الصورة المطلوب أن نظهر بها... متسامحين، ليبراليين... نؤمن بدور المرأة ومكانتها، ونفعل وجودها ونمكّن لها».

ويفعل التيار السياسي ذلك أيضاً حين يضع اسم امرأة واحدة في قائمته الانتخابية؛ ليستدرج أصوات النساء الراغبات في دعم التمكين لبنات جنسهن، وليؤكد لجمهوره «حداثته وليبراليته»، ويثبت للنظام العام «عدالته» في عدم التمييز بين أبناء الأمة وبناتها، ويبرهن للقوى التقدمية على تبنيه مفهوم «النوع الاجتماعي» في مقابل تعسف مفهوم «الجنس»، ويخاطب تصلب التقليديين ونزوعهم العنصري بلغتهم: «تخيرنا امرأة واحدة وسط حشد من الذكور لأنها ناقصة عقل ودين».

أما الجمهور فيسلع المرأة بطريقته أيضاً؛ يحضر مؤتمراتها الانتخابية، ويساندها قولاً لا فعلاً، وفي الانتخابات يصوت لها بحساب؛ فتحصل على قدر من الأصوات يثبت «انفتاح الجمهور وسماحته»، لكنه لا يكفي أبداً للنجاح والنفاذ إلى البرلمان.

التيار الديني يفعل الأمر ذاته لكن وفق برامجه واستراتيجياته؛ فالمرأة هي السلعة الأقدر على جذب الأرباح وحصد النتائج بأقل مجهود؛ حجابها، صوتها، صورتها، وأيضاً وجودها ذاته.

ليست المرأة سوى سلعة في هذه السوق: حكومة تتجمل بها في أعين الخارج، وبرلمان يسد بها جوع أكثر من نصف الناخبين إلى مكانة لائقة في السياسة والمجتمع، وليبراليون يعولون على مدد نسائي من أصدقاء المرأة وحلفاء التقدم، وتقليديون يرتزقون من حجبها وكبتها أصواتاً من جمهور مخنوق غارق في الشكلية، وأخيراً صحافة تلعب على الجميع، ليشتروا صوراً لنساء في موضوعات ذكورية وصراعات رجالية.

* كاتب مصري