مثل ممر في الخريف، ما أن يُكنس بمشقة، حتى يُغطى ثانيةً بالأوراق الجافة.

Ad

هناك مخابئ لا محدودة، وخلاصٌ واحدٌ لا غير، ومرة أخرى، هناك من طرق للخلاص بقدر ما هناك من مخابئ.

أحِطْ بمعطفك الطفلَ، أيها الحلم البعيد.

نائمٌ، يقظٌ، نائم، يقظ، حياةٌ بائسة.

خيّاطة تحت مطر غزير.

ثمة هدف، ولكن ما من طريق إليه، ما نسميه طريقاً ليس إلا ترددا.

في الصراع بين ذاتك والعالم، انتصر للعالم.

هذه عيّنة من مقتطفات، انتخبها الموسيقي الروماني Kurtág جيورجي كورتاج (1926-) من يوميات، رسائل، انطباعات لفرانتس كافكا، ووضع لها الألحان المناسبة لتشكل عملاً موسيقياً متكاملاً، يعتمد الصوت البشري (سوبرانو) بصحبة آلة الفايولين، المقاربة لهذه الطبقة، وعنون العمل بـمقتطفات كافكا، ويتوزع على أربعين أغنية، تمتد لساعة كاملة.

العمل ليس يسيراً على الأذن، وعلى النفس، شأن معظم أعمال كورتاج، وهو لم يكُن يسيراً عليّ بالتأكيد، لكني روّضتُ النفس على التعامل مع الجديد باعتباره درساً، لذلك تابعتُ الأغنيات، التي لا تتجاوز إحداها الدقيقة الواحدة، والتي تبدو لي أحياناً حشرجةَ حنجرةٍ مختنقة، بأناة الدارس، محاولاً مُطابقة جملة كافكا، التي لا تخلو من ابتسار أحياناً هي الأخرى، مع الجملة اللحنية، ولم تبخل علي الألحان في إضاءة العالم الداخلي للموسيقي، وهو يحاول أن ينتفع من كل جملة لكافكا لمصلحة إضاءة ركن من عالمه الداخلي هو، مُستعيناً بالبيانات الخاطفة.

على أني لم أكف عن مساءلة النفس إذا ما كانت المحصلة على قدر الجهد، ولي في هذه المساءلة خزينٌ من قراءاتي الشعرية، والفنية، وعادة ما كنت أجدها كذلك، لأن العمق في الثقافة الغربية عادة ما يرتبط بالجدية، وما من شيء اعتباطي، ومجاني.

إن جمل كافكا بدل أن تكون حكائية، تحاول أن تمنحنا ومضات في لحظات فريدة، حتى ليبدو الذي كان لا يستحق التفاتاً واستعادةً مركزَ انتباهنا، وغيرُ المسموع، واللامرئي ملأ علينا السمع والبصر.

والغريب أني بدأت أتلمس كلَّ هذا في الجمل اللحنية، لأن التلوين الصوتي، والتشويه الصوتي معاً، إلى جانب الإسهام المشابه لآلة الفايولين، أعطى العمل مسحة درامية عالية، لكنها دراما لا تعتمد الحدث الخارجي، بل قوى المشاعر والأفكار الداخلية.

والعملُ، إلى جانب أنه دراما، يبدو للمستمع منذ ترداد لن يحدث بعد اليوم، لن يحدث ثانية… رحلةً في طريق منفىً، وفقدان كامل لكل شيء عزيز، لكن على مقربةٍ من النهاية، يترددُ صوتٌ آخر: ثانيةً، ثانية، المنفيّ بعيداً... يُصبح المنفى أمل حياة جديدة، والاحتمالات تجذبنا قُدماً باتجاه مستقبلٍ واسعٍ، مجهولٍ، عصيّ على التنبؤ.

كان كورتاج يحب مقاربة الموسيقى والشعر، ولقد استعان بالشعر الروسي الذي كان يميل إليه (أخماتوفا، ألكسندر بلوك، وشفيتاييفا)، ثم استجاب للتساؤل الذي وجده مُلحاً، في قصيدة صمويل بيكيت ما هي الكلمة؟، ليضع آخر أعماله.

إنه، وخاصة في أعماله الأخيرة، كثّف من لغته الموسيقية واختصرها إلى ومضات، محاولة دائمة منه لأن يمسك بالتعقيد الهائل وكذلك البساطة المذهلة للوجود.

ولد كورتاج من عائلة هنغارية تُقيم في رومانيا، ثم انتقل إلى بودابست عام 1946، حيث درس في أكاديمية ليست الموسيقية. كانت خمسينيات القرن الماضي شاقةً على موسيقيي هنغاريا، حيث ضُربت عليهم العزلة، بسبب السفر الممنوع، عن التطورات الهائلة في الحياة الموسيقية الغربية.

في عام 1993، بعد انهيار الأنظمة الشمولية، ترك كورتاج هنغاريا وقد احتفظ طوال حياته هناك بعُدة الموسيقي، لا في القدرات بل في الانتساب إلى النفس الموسيقية التي لم تنحنِ للتيار، ثم أقام في برلين حتى اليوم.

في موقعالكثير من أعمال العزف الحية لهذا الموسيقى، خصوصا عمله أشباح كورتاج الموزع على حلقات عدة، لمن يرغب.