تشريح التاتشرية

نشر في 23-05-2009
آخر تحديث 23-05-2009 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت منذ ثلاثين عاماً وصلت مارغريت تاتشر إلى السلطة. ورغم أن الظروف الداخلية عجَّلت بقيام ثورة تاتشر (أو ثورة تاتشر-ريغان على نطاق أوسع) فإن هذه الثورة أصبحت بمنزلة ماركة عالمية مشهورة لمجموعة من الأفكار التي ألهمت سياسات تحرير الأسواق من التدخل الحكومي. وبعد ثلاثة عقود من الزمان أصبح العالم في كساد، ويعزو العديد من الناس الازمة العالمية الحالية إلى هذه الأفكار.

كان النموذج الأنجلو أميركي للرأسمالية محكوماً عليه بالفشل. وهو يتحمل المسؤولية عن اقتراب النظام المالي العالمي من حافة الهاوية. ولكن باسترجاع ثلاثين عاماً من الأحداث يصبح بوسعناً أن نحكم على العناصر التي ينبغي الحفاظ عليها من ثورة تاتشر، والعناصر التي ينبغي تعديلها في ضوء دورة الانحدار الاقتصادي التي يعيشها العالم اليوم.

يتلخص العنصر الأكثر وضوحاً بين العناصر التي تحتاج إلى التعديل في وجهة النظر القائلة بأن الأسواق الخاضعة للحد الأدنى من الإدارة والتنظيم من جانب الحكومة هي الأكثر استقراراً والأشد نشاطاً مقارنة بالأسواق الخاضعة للتدخل الحكومي المكثف. أو نستطيع أن نقول بعبارة أخرى إن اقتراح ثورة تاتشر في هذا السياق كان يتلخص في أن فشل الحكومة أعظم تهديداً للرخاء والازدهار مقارنة بفشل السوق.

لم يكن كل ذلك أكثر من مجرد تاريخ مضلل. ذلك أن السجلات تؤكد أن الفترة بين عامي 1950 و1973، حين كان التدخل الحكومي في اقتصاد السوق عند أعلى مستوياته في وقت السلم، كانت ناجحة اقتصادياً على نحو لم يسبق له مثيل، حيث لم تشهد تلك الفترة أي فترات ركود عالمي، وكانت معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي- ونمو نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي- أسرع من أي فترة مشابهة سواء من قبلها أو بعدها.

وربما يزعم البعض أن الأداء الاقتصادي كان ليصبح أفضل في ظل تدخلات حكومية أقل. بيد أن إيجاد سوق مثالية كاملة ليس بالاحتمال الأكثر قوة من إيجاد حكومة مثالية كاملة. وليس بين أيدينا أكثر من عقد المقارنات بين ما حدث في أوقات مختلفة. وتؤكد لنا هذه المقارنات أن أداء الأسواق تحت رقابة الحكومات كان أفضل من أداء الأسواق من دون رقابة من الحكومات.

ومع ذلك فإن الاقتصاد السياسي في عهد ما قبل تاتشر كان يمر بأزمة بحلول سبعينيات القرن العشرين. وكانت أسوأ أعراض تلك الأزمة ظهور "الركود المصحوب بالتضخم"- والذي اتسم بارتفاع معدلات التضخم والبطالة في الوقت نفسه. ويبدو أن خللاً ما أصاب نظام الإدارة الاقتصادية الموروث عن جون ماينارد كينـز.

فضلاً عن ذلك، فإن الانفاق الحكومي كان في ارتفاع، وأصبحت النقابات العمالية أكثر تشدداً، وأخذت السياسات المتبعة للسيطرة على نظام المدفوعات في الانهيار، وهبطت توقعات الربح إلى حد كبير. وبدا الأمر في نظر الكثيرين وكأن صلاحيات الحكومة أصبحت أوسع من قدراتها، وعلى ذلك فلم يكن هناك، في رأيهم، بد من تعظيم قدرات الحكومة أو تقليص صلاحياتها. وفي ذلك الوقت ظهرت التاتشرية باعتبارها البديل الأكثر قبولاً لاشتراكية الدولة.

كان نايجل لوسون ثاني وزير مالية في حكومة تاتشر. ومن الجهود التي بذلتها الحكومة لمكافحة التضخم برز "مبدأ لوسون" لأول مرة في عام 1984، ثم أصبح مقبولاً لدى الحكومات والبنوك المركزية منذ ذلك الوقت. قال لوسون: "إن غزو التضخم لابد أن يكون هدفاً أساسياً لسياسة الاقتصاد الكلي. وتهيئة الظروف المواتية للنمو وتشغيل العمالة لابد أن يشكل الهدف الأول لسياسة الاقتصاد الجزئي".

كان ذلك الاقتراح سبباً في انقلاب المفاهيم الكينزية التقليدية السابقة التي كانت تؤكد ضرورة استهداف سياسة الاقتصاد الكلي للتشغيل الكامل للعمالة، مع ترك مسألة السيطرة على التضخم لسياسة الأجور. ولكن على الرغم من إصلاحات "جانب العرض" التي قدمتها الحكومات التي تبنت مبادئ التاتشرية، فإن معدلات البطالة كانت منذ الثمانينيات أعلى كثيراً مما كانت عليه أثناء الخمسينيات والستينيات 7,4% في المتوسط في المملكة المتحدة، مقارنة بحوالي 1,6% فقط في العقود السابقة.

ولكن ماذا عن استهداف التضخم؟ هنا أيضاً كان السجل رديئاً منذ عام 1980، وذلك على الرغم من الضغوط الانكماشية الهائلة التي فرضتها الأجور التنافسية المنخفضة في آسيا. وكان معدل التضخم أثناء الفترة 1950-1973 ثم أثناء الفترة 1980-2007 متماثلاً- أكثر من 3% قليلاً- بينما فشل استهداف التضخم في منع نشوء سلسلة من فقاعات الأصول التي جلبت الركود في أعقابها.

ولم تنجح السياسات التاتشرية أيضاً في تحقيق واحد من أهم أهدافها الرئيسية- تخفيض حصة الإنفاق الحكومي في الدخل الوطني. وأكثر ما يمكننا تأكيده في هذا السياق أن هذه السياسات نجحت في منع ارتفاع تلك الحصة لفترة من الوقت. والآن عاد الإنفاق العام إلى الارتفاع من جديد، وامتد العجز القياسي في وقت السلم الذي بلغ 10% أو أكثر من الناتج المحلي الإجمالي لسنوات عدة.

لقد تسببت ثورة تاتشر-ريغان حين عمدت إلى إلغاء التنظيمات المفروضة على أسواق المال على مستوى العالم في جلب فساد المال، من دون تحسين النمو السابق للثروات- باستثناء ثروات الأشخاص الذين كانوا الأكثر ثراءً بالفعل. بل إن المواطن المتوسط على مستوى العالم كان ليصبح الآن أكثر ثراءً بنسبة 20% لو كان نمو نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي قد استمر بالمعدل نفسه أثناء الفترة من عام 1980 إلى عام 2007 وذلك على الرغم من معدلات النمو المرتفعة في الصين أثناء العشرين عاماً الماضية. فضلاً عن ذلك فقد ساهم أتباع التاتشرية، رغم كل مواعظهم، في الانحطاط الأخلاقي الذي تمكن من الغرب حين أطلقوا العنان لسلطة المال.

في مقابل هذه السلبيات كلها هناك ثلاث إيجابيات. الإيجابية الأولى، كانت التحول إلى الخصخصة. فبإعادة أغلب الصناعات المملوكة للدولة إلى الملكية الخاصة، نجحت ثورة تاتشر في قتل اشتراكية الدولة. وظهرت أعظم تأثيرات برنامج الخصخصة البريطاني في البلدان الشيوعية سابقاً، والتي استعارت من بريطانيا الأفكار والأساليب اللازمة لتفكيك الاقتصاد العاجز الخاضع لسيطرة الدولة. ولابد من الحفاظ على هذا المكسب في مواجهة الأصوات الصاخبة الحالية المنادية بتأميم البنوك.

كان النجاح الثاني الذي حققته التاتشرية يتلخص في إضعاف النقابات العمالية. ذلك أن النقابات التي أنشئت لحماية الضعفاء في مواجهة الأقوياء تحولت في السبعينيات إلى أعداء للتقدم الاقتصادي وقوة هائلة قوامها المحافظة الاجتماعية. فكان من الصواب تشجيع نوع جديد من الاقتصاد سعياً إلى الخروج من هذه القوالب الجامدة.

وأخيراً، نجحت التاتشرية في القضاء على سياسة تثبيت الأسعار والأجور سواء من جانب طرف مركزي مستبد أو عن طريق "مساومات" ثلاثية بين الحكومات، وأصحاب العمل، والنقابات العمالية. فهذه كانت السبل التي اتبعتها الفاشية والشيوعية، وهي السبل التي كانت لتؤدي في نهاية المطاف إلى تدمير الحرية الاقتصادية، بل والحرية السياسية.

إن السياسة كثيراً ما تكون شديدة التقلب. وفي محاولاتنا الرامية إلى بناء اقتصاد ما بعد التاتشرية المحطمة، فلابد أن نتوخى أشد الحذر خشية أن نتسبب في إحياء سياسات الماضي الفاشلة. مازلت أرى أن التمييز الذي أكد عليه كينـز بين الأجندة واللا أجندة في عالم السياسة كان مثمراً للغاية. كان كينـز يرى أن الحكومات المركزية مادامت تتحمل المسؤولية عن الحفاظ على مستوى مرتفع ومستقر من تشغيل العمالة، فإن أغلب بقية الحياة الاقتصادية من الممكن أن يتحرر من التدخلات الرسمية. والمهمة الأساسية اليوم تتلخص في إيجاد التقسيم اللائق للمسؤولية بين الدولة والسوق.

* روبرت سكيدلسكي، عضو مجلس اللوردات البريطاني، والأستاذ الفخري للاقتصاد السياسي بجامعة وارويك

"بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة"

back to top