حديقة الإنسان: جهاز لتأليف القصص!
إذا كان كل شيء في هذا العالم قد صار سلعة سريعة الإنتاج، سريعة الاستهلاك، سريعة العطب، فلماذا يشذ الإبداع الذهني عن ذلك؟وإذا أصر هذا الإبداع على الشذوذ والصمود، في عالم الآلات البشرية المنتجة للخواء، فمن يضمن له البقاء على قيد الحياة، إذا وجد نفسه، فجأة أمام آلات ميكانيكية أو إلكترونية تقذف أطنان الكلام المعاد والمتشابه والمعتدل إلى حد انكسار الظهر، لتتلقفه أفواه المطابع الجائعة دائما للاستهلاك والإهلاك؟
آلات للإبداع الذهني؟ هل هذا ممكن؟!الكاتب البريطاني الراحل «رولد دال» ودجد هذا الأمر ممكنا عندما، كتب يوما، عن آلة لغوية أوتوماتيكية تتيح لمستخدمها، بكبس عدد من الأزرار، إنتاج قصص جاهزة للنشر! تبدأ الحكاية بانتهاء رجل عبقري يعمل في شركة لإنتاج الآلات الحاسبة، من اختراع آلة تنجز في ثوان معدودة عمليات حسابية يعجز أكبر ضليع في الرياضيات عن القيام بمثلها في مدى شهر كامل على الأقل.ولأن هذا العبقري كان مولعاً جدا بتأليف القصص، فقد فكر في إنتاج آلة شبيهة بتلك الآلة الحاسبة، لكن على نحو لغوي، أي أنه بدلا من تغذيتها بالأرقام يعمل على تغذيتها بالكلمات... وبدلا من أن تنتج حلولا رياضية سيمكنها أن تنتج قصصا!يعمل صاحبنا طيلة أسبوعين على وضع تخطيطات آلته العجيبة وعندما يعرض المشروع على رئيسه لا يأخذه هذا بجدية لافتراضه أن الآلة حتى لو نجحت لن تعطي الشركة مرودواً مالياً جيداً كالآلات الحاسبة.لكن الآخر يقنعه بجدوى المشروع، حين يعلمه بأن الصحف والمجلات تدفع للكاتب مبلغاً كبيراً من المال مقابل كل قصة.ويضيف إلى ذلك أنه استقرأ ما ينشر في مختلف هذه المطبوعات لمدة طويلة، فوجد أن القصص فيها تكاد تكون نسخاً متشابهة لولا اختلاف العناوين وبعض الجمل وعلامات الترقيم هنا أو هناك.ويغريه معنويا أيضا بإمكانية وضع اسمه على سلسلة من القصص التي ستنتجها الآلة، ليتفاخر، حين لقائه بأصدقائه في النادي، بأن اسمه منشور في الجرائد.ينجح الاختراع... فيفكر الاثنان في تأسيس وكالة لتوزيع القصص على الصحف والمجلات، لكي يقطعا سبيل الرزق على المبدعين الحقيقيين، وذلك لأن قصص الوكالة سريعة الإنتاج، وتغطي طلب المطبوعات الذي لا ينتهي، ولأنهما، وهذا هو المهم، يمكن أن يبيعاها بنصف الثمن! قصص، قصص، قصص... بآلاف العناوين وآلاف الأسماء المستعارة.يصاب رئيس الشركة، إضافة إلى تخمته المالية، بتخمة الشهرة ككاتب قصص قصيرة، فيعرض على مرؤوسه رغبته في التحول إلى تأليف الروايات!وليس ذلك، بالطبع، أمراً مستحيلاً، فمبجرد إضافة بعض الوصلات والأسلاك، وتغيير عدد من الأزرار، وإجراء بعض التعديلات على برنامج الجهاز، يصبح ممكنا إنتاج رواية من أي نوع خلال دقائق: بكبسة زر يظهر عنوان الرواية، وبكبسة زر آخر يتقرر نوعها: رومانسية مثلا، وبكبسة زر يتقرر حجمها: خمسة عشر فصلا... وينتهي الأمر... تقرقر الآلة وتزمجر لبضع لحظات، ثم ما على رئيس الشركة إلا أن يتهيأ لاستلام الأوراق والاسترخاء في كرسيه الوثير، لقراءة الفصل الأول من «روايته» ريثما تنتهي الآلة من إنجاز الفصول اللاحقة.تسيطر الوكالة بأسماء مؤلفيها الزائفة على سوق النشر، وتمتلىء خزانتها بسيول المال، فيشطح ذهن المخترع أكثر، فيعرض على رئيسه فكرة شراء المبدعين الحقيقيين ذوي الأسماء اللامعة.يضع قائمة بأسماء المؤلفين المشاهير، ويطرق أبوابهم عارضا عليهم عقداً يتم بموجبه استخدام أسمائهم وذلك بوضعها على أغلفة روايات من إنتاج آلته مقابل إعطائهم رواتب ضخمة مدى الحياة شريطة أن يكفوا عن الإبداع!في البداية يجابه هؤلاء بالغضب وبالطرد وحتى بالضرب لكنه بالصبر والمثابرة، يتمكن في النهاية من شراء أسماء سبعين في المئة منهم!يقول راوي الحكاية في نهايتها: «في هذه اللحظة بينما أجلس هنا مصغياً لتضوّر أولادي التسعة في الغرفة المجاورة أستطيع أن أشعر بأناملي وهي تزحف مقتربة أكثر فأكثر من ذلك (العقد) الذهبي المطروح هناك على الجانب الآخر من الطاولة. امنحنا القوة يا إلهي لنستطيع أن نتجاهل تضور أولادنا من الجوع»!وهذا يعني أن الراوي هو واحد من الثلاثين في المئة الذين لايزالون مترددين في بيع أسمائهم والتخلي عن مواهبهم وخصوصية إبداعهم على رغم صراخ أولادهم من شدة الجوع.كتب «رولد دال» قصته تلك منذ ما يقرب من ستين عاما... وحيث لم تعد أفران الاستهلاك، في زماننا مقتصرة على الجرائد والمجلات، وحيث تجاوز قانون السلعة مسألة القصص، وامتد ليبتلع جميع نأمات الأرواح بكل ألوانها فليس معلوماً اليوم كم بقي من أولئك الثلاثين في المئة المعتصمين بمواهبهم في مواجهة تلك الآلة الرهيبة!* شاعر عراقيتنشر بالاتفاق مع جريدة (الراية) القطرية