القضاء المصري: فلسطين قضية مصر القومية
- المزايدات لا ترد وطناً أو تحرر أرضاًحصدت وتحصد آلة القمع الإسرائيلية أرواح المئات من شهداء قطاع غزة، ومئات من الجرحى غصت بهم مستشفيات القطاع والمستشفيات المصرية، في زمن الهوان، زمن الضعف، زمن الضياع الذي تعيشه الأمة العربية، الذي لا تملك فيه شعوب هذه الأمة إلا المهرجانات الخطابية والمظاهرات الغاضبة، التي تجوب الشارع العربي من المحيط إلى الخليج تندد وتتعالى فيها صيحات الغضب والألم، وتتنادى بالجهاد والكفاح، ولا حياة لمن تنادي، في هذا الزمن الردئ، الذي أصبحت فيه الحكومات العربية ترصد الاعتمادات المالية لشراء الأسلحة لتكدسها في مخازنها، استكمالاً لشكل الدولة، واعتبارها كدولة ذات سيادة كاملة غير منقوصة، وقد أصبحت هذه السيادة في أغلب هذه الدول شكلاً بغير مضمون، بعد تبعية للولايات المتحدة كاملة غير منقوصة، وقواعد عسكرية أميركية مقامة على أراضي بعض الدول التي يزايد حكامها على مصر.
وإن هذه المزايدات لا ترد وطناً سليباً ولا تحرر شبراً من الأرض المحتلة أو توقف نزيف الدم العربي.المزايدات تزيد انقسامنا وضعفناإن قرار الحرب، في زمن الضعف والهوان الذي نعيشه، في زمن الانقسام والضياع الذي نكتوي في آتونه، وهم عريض، وضرب من الخيال البعيد عن الواقع، لا يقبله منطق أو عقل، والآلة العسكرية الإسرائيلية، تملك كل ما لدى الترسانة العسكرية الأميركية من أسلحة متطورة وأسلحة دمار شامل، (مائتا رأس نووية) بل وتفوقها في بعض الأسلحة. إن هذه الحقائق يعلمها حكام العرب كلهم، ويعترفون بها في مجالسهم الخاصة، كما أن مزايدة البعض منهم على مصر وشعبها أمام شعوبهم ستزيد من الهوة التي تفصل بين شعوب الأمة العربية، ولن تخلِّف إلا مزيدا من الانقسام والضياع، وهذا هو ما يراد لهذه الأمة من أعدائها المتربصين بهـا.إن نبذ خلافاتنا العربية وعودة التآخي والتضامن العربي، والوقوف صفاً واحداً في مواجهة العدو الصهيوني الغادر، هو طريقنا الوحيد لاكتساب احترام العالم الذي لا يقف إلا مع الأقويـاء. إن مصر قلب الأمة العربية النابض بالحياة، لا يمكن أن تتسلب من دورها القيادي العربي، أو تنسى نضالها عبر تاريخها الطويل من أجل الحفاظ على وحدة الأمة العربية، ومن أجل تحرير كل شبر في الأرض العربية، ومن أجل القضية الفلسطينية، ولن تنسى التضحيات التي قدمها شعبها لهذه القضية وللشعب الفلسطيني، لكى تضيع هدرا دون حل عادل وشامل لهذه القضية.- مصر الشعب والدولة و«كامب ديفيد» إن مصر تقف في خندق واحد مع الشعب الفلسطيني، فأمن فلسطين هو أمن مصر، وأمن كل وطن عربي هو أمن مصر.وإن اتفاقية «كامب ديفيد»، وبالرغم من بعض القيود التي تفرضها على الحكومة المصرية، لم تنل من إرادة مصر وشعبها في وقوفهما مع الشعب الفلسطيني في كل ما يتعرض له من محن ومعاناة، ولم تستطع أن تنال من إرادة الشعب المصري في رفضه للتطبيع ومده المقاومة الفلسطينية في غزة بما تحتاجه من مؤن وسلاح عبر أنفاق تحت الأرض، بين رفح العريش ورفح غزة، فهم أولاد عمومة يتقاسمون كسرة الخبز وشربة الماء.ومصر هي الشعب والدولة بمؤسساتها الدستورية كافة، وفي قمتها قضاء مصر الشامخ، الذي أوقف تصدير الغاز لإسرائيل، بالحكم الذي أصدره مجلس الدولة المصري في الثامن عشر من نوفمبر سنة 2008، وهو ما كان موضع تعليقنا في مقالين نشرا هنا في 29/12/2008 و5/1/2009. - قضية قوافل المعونات الإنسانية ونتناول في هذا المقال قضية أخري هي القضية رقم (61218) لسنة 62ق التي أقامها- قبل العدوان الإسرائيلي الوحشي علي غزة- ثلاثون مصرياً يمثلون أطياف المجتمع المصري وفئاته وتوجهاته كافة، كانوا يصحبون قافلتين حملتا معونات إنسانية من أدوية وأغذية، تبرع بها شعب مصر، وأثناء مرور القافلتين في سيناء في طريقهما إلى غزة، منعت بعض قوات الأمن المصرية القافلتين من متابعة طريقهما وحالت دون وصولهما إلى الهدف المرسوم.وفي تكييف هذا المنع اعتبره المصاحبون للقافلتين قراراً إدارياً صادراً من وزير الداخلية، وأقاموا الدعوى المذكورة، بطلب إلغاء هذا القرار ووقف تنفيذه فوراً إلى أن يقضي بإلغائه، والسماح لقوافل الإغاثة الإنسانية ومرافقيها بتسليم مواد الإغاثة لشعب غزة على الحدود المصرية الفلسطينية عبر معبر رفح.- المحكمة تقضي بوقف تنفيذ القرار وفي جلسة المحكمة المعقودة بتاريخ 11/11/2008 برئاسة المستشار الدكتور محمد أحمد عطية وعضوية المستشارين منير محمد غطاس وفوزي علي حسني شلبي، أصدرت المحكمة حكمها القاضي برفض الدفع المقدم من الحكومة باعتبار القرار عملاً من أعمال السيادة لا يبسط عليه القضاء ولايته، وباختصاصها بنظر الدعوى، وبوقف تنفيذ القرار المطعون فيه فيما تضمنه من منع المدعين من التنقل داخل الوطن حتى رفح المصرية مع ما يترتب على ذلك من آثار أخصها تسليم ما يحملونه من معونات إنسانية- غير محظورة- إلى أهل غزة المحاصرين، وأمرت بتنفيذ الحكم بمسودته ومن دون إعلان.وكانت المحكمة قد بنَّت قضاءها في رفض اعتبار القرار المطعون فيه عملاً من أعمال السيادة، بالأسباب ذاتها التي بنَّت عليها قضاءها في رفض أعتبار تصدير الغاز لإسرائيل عملاً من أعمال السيادة، وهي الأسباب التي عرضنا لها في مقال الاثنين الماضي تعليقا علي الحكم الصادر في هذه القضية.- الحق في التنقل فرع من الحرية الشخصية وقد أسست المحكمة قضاءها بالنسبة إلى السماح للقوافل الإنسانية بالمرور عبر سيناء إلى أهالي غزة المحاصرين، بما جاء في أسباب الحكم من أن الدساتير المصرية المتعاقبة ابتداءً من دستور عام 1923، ودستور عام 1956، وأخيراً دستور جمهورية مصر العربية عام 1971، قد تواترت على كفالة الحقوق والحريات العامة للمواطنين وذلك لسموها، حتى أن دستور عام 1971 قد أفرد لها باباً خاصاً من أبواب الدستور هو الباب الثالث لحماية هذه الحقوق والحريات العامة من أي افتئات أو عدوان عليها، وتعتبر الحرية في التنقل داخل الدولة أو خارجها من الحريات اللصيقة بالإنسان والمستمدة من فطرته وطبيعته الإنسانية.وقد أعلى الدستور من شأن الحرية الشخصية، واعتبرها حقاً مقرراً للفرد في سكونه وحركته... فللفرد أن يستقر في مكان فتتجلى بذلك حريته الأساسية، وهي (حرمة مسكنه)، أو يتحرك متنقلاً من مكان إلى آخر؛ قريباً كان هذا المكان أم بعيداً داخل الدولة أو حتى عبر حدودها، فتتجلى بذلك حريته في التنقل، وذلك إعمالاً لنص المادتين (41)، (50) من الدستور، التي نصت أولاهما على أن (الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تُمس وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة وذلك وفقـاً لأحكام القانون.ونصت المادة (50) منه على أنـه: «لا يجوز أن يُحظر على أي مواطن الإقامة في جهة معينة ولا أن يُلزم بالإقامة في مكان معين إلا في الأحوال المبينة في القانون».كما جاء في المادة (13) فقرة (1) من وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن: «لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل الدولـة». ولما كان الحق في التنقل فرعا من الحرية الشخصية- على ما سلف بيانه- فإنه لا يجوز مصادرته بغير علة، ولا مناهضته دون مسوغ أو تقييده بلا مقتض، ومن ثم كان قضاء المحكمة بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه والسماح للقوافل الإنسانية بالمرور لتقديم المعونات الإنسانية إلى قطاع غزة عبر معبر رفح. - قضية فلسطين قضية مصر القومية وكان من مدونات الحكم السالف الذكر ما جاء في سرده لوقائع الدعوى، من انتهاك القرار بمنع القافلة من متابعة سيرها للتقاليد المصرية الأصيلة، وللمواثيق والقوانين الدولية لصدوره مشوباً بعيب إساءة استعمال السلطة، فضلاً عن مخالفته لجميع ما دعت إلى ترسيخه الشرائع السماوية من نصرة الحق ومساعدة الضعفاء وإغاثة المظلومين، وإهداره التراث التاريخي للشعب المصري الذي يعتبر قضية شعب فلسطين قضيته القومية ضحى في سبيلها بالعديد من أرواح أبنائـه.