دافوس وكساد البشر

نشر في 09-02-2009
آخر تحديث 09-02-2009 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت طيلة خمسة عشر عاماً ظللت مواظباً على حضور المنتدى الاقتصادي العالمي في «دافوس». وبطبيعة الحال يشترك الزعماء المجتمعون هناك في تفاؤلهم بشأن الكيفية التي نجحت بها العولمة والتكنولوجيا والأسواق في تحويل العالم نحو الأفضل. وحتى أثناء فترة الركود في عام 2001، كان هؤلاء الذين اجتمعوا في «دافوس» على اقتناع تام بأن الانحدار الاقتصادي سيكون قصير الأمد.

ولكن هذه المرة، وبعد أن تقاسم كبار رجال الأعمال تجاربهم وخبراتهم، فإن المرء ليكاد يرى الغيوم القاتمة وهي تتجمع. فقد سيطرت على المنتدى روح كئيبة بعد أن اقترح أحد المتحدثين أننا انتهينا من دورات «الرواج والركود» وبدأنا دورات «الرواج والهلاك». وكان الإجماع الناشئ في ذلك المنتدى أن توقعات صندوق النقد الدولي لعام 2009 بشأن الركود العالمي، والتي صدرت أثناء انعقاد الاجتماع- أدنى معدلات النمو منذ الحرب العالمية الثانية- كانت مغرقة في التفاؤل. أما النبرة المتفائلة الوحيدة فكانت من جانب أحد الحاضرين الذي انبرى قائلاً إن توقعات إجماع «دافوس» كانت مغلوطة في كل الأحوال تقريباً، لذا فمن المحتمل أن يثبت هذه المرة أن التوقعات كانت مفرطة في التشاؤم.

وكان فقدان الثقة في الأسواق من بين المظاهر المذهلة أيضاً. ففي إحدى جلسات تبادل الأفكار التي حضرها جمهور عريض، سُـئل المشاركون عن الفشل الأساسي الذي أدى إلى الأزمة، فكان الجواب مدوياً: الاعتقاد بأن الأسواق قادرة على تصحيح ذاتها.

أما نموذج «كفاءة الأسواق»، والذي يرى أن الأسعار تعكس بشكل كامل وفعّال المعلومات المتاحة كافة، فقد أصبح أيضاً من سقط المتاع. وكذلك فكرة استهداف التضخم: كان التركيز المفرط على التضخم سبباً في تحويل الانتباه عن مسألة أكثر جوهرية، وهي الاستقرار المالي. إن اقتناع محافظي البنوك المركزية بأن السيطرة على التضخم أمر ضروري بل ويكاد يكون كافياً في حد ذاته لحفز النمو والازدهار، لم يكن مستنداً إلى نظرية اقتصادية سليمة على الإطلاق؛ والآن أثارت الأزمة المزيد من الشكوك والريب.

وفي حين لم يحاول أي شخص سواء من إدارة بوش أو إدارة أوباما أن يدافع عن الأسلوب الأميركي في الرأسمالية حُرة الحركة، فقد دافع زعماء أوروبا عن نموذج «اقتصاد السوق الاجتماعي»، أو الصورة المخففة التي تبنتها أوروبا من الرأسمالية، بكل ما تحمله من سبل الحماية الاجتماعية، باعتباره نموذجاً للمستقبل. وزعموا أن آليات التثبيت التلقائية، حيث ترتفع معدلات الإنفاق تلقائياً مع تزايد المخاوف الاقتصادية، تحمل الوعد بتخفيف حدة الانحدار الاقتصادي.

وبدا الأمر وكأن أغلب زعماء المال الأميركيين في وضع حرج إلى الحد الذي لا يسمح له بالظهور. وربما كان غياب هؤلاء سبباً في تيسير الأمور بالنسبة لأولئك الذين حضورا للتنفيس عن غضبهم. والحقيقة أن القِلة من زعماء العمال، الذين يعملون بجدية في «دافوس» في كل عام من أجل تعزيز فهمٍ أفضل لمخاوف الرجال والنساء من العاملين بين أفراد مجتمع المال والأعمال، أعربت عن غضبها الشديد إزاء افتقار مجتمع المال إلى أي شعور بالندم. وقوبلت الدعوة التي أطلقها أحد الحضور إلى إرغامهم على رد مكافآت الماضي بالتصفيق الحاد.

الواقع أن بعض أهل المال الأميركيين تعرض بصورة خاصة لانتقادات حادة بسبب اتخاذه لموقف الضحية هو أيضاً. وحقيقة الأمر أن هؤلاء كانوا هم الجناة وليسوا الضحايا، وبدا من المزعج على نحو خاص أنهم كانوا مصرين على توجيه أصابع الاتهام إلى رؤساء الحكومات، والمطالبة بعمليات إنقاذ ضخمة، والتهديد بانهيار الاقتصاد إن لم يحدث ذلك. لقد تدفقت الأموال إلى هؤلاء الذين أحدثوا المشكلة بدلاً من أن تذهب إلى الضحايا.

والأسوأ من ذلك أن جزءاً كبيراً من الأموال التي تدفقت على البنوك لإعادة تمويلها حتى تتمكن من استئناف عمليات الإقراض كان يتدفق إلى خارج البنوك مرة أخرى في هيئة مكافآت وأرباح. فضلاً عن ذلك فإن حقيقة عدم حصول الشركات في أنحاء العالم المختلفة على القدر الذي كانت تحتاج إليه من أرصدة الائتمان كانت سبباً في تفاقم المظالم التي أعرب عنها المجتمعون في «دافوس».

إن هذه الأزمة تثير تساؤلات جوهرية بشأن العولمة، التي كان من المفترض أن تساعد في توزيع عامل المجازفة. إلا أنها بدلاً من ذلك كانت السبب في امتداد إخفاقات أميركا إلى أنحاء العالم المختلفة، كالمرض المعدي. ورغم ذلك فإن السبب الأعظم للانزعاج والقلق في «دافوس» كان يتلخص في تفاقم احتمالات التراجع عن العولمة، وأن البلدان الفقيرة هي التي ستتحمل القدر الأعظم من المعاناة.

ولكن أرض الملعب كانت غير مستوية دوماً. فكيف للبلدان النامية أن تنافس الإعانات والضمانات الأميركية؟ وكيف لأي دولة نامية أن تدافع أمام مواطنيها عن فكرة المزيد من الانفتاح على البنوك الأميركية المدعومة إلى حد كبير؟ الحقيقة أن فكرة تحرير أسواق المال أصبحت في عداد الأموات، على الأقل في الوقت الحالي.

إن مظاهر الظلم والإجحاف واضحة. فحتى لو كانت البلدان الفقيرة راغبة في ضمان ودائعها، فإن الضمانات سوف تكون أقل من تلك التي قد تقدمها الولايات المتحدة. وهذا يفسر جزئياً التدفق الغريب للأرصدة المالية من البلدان النامية إلى الولايات المتحدة- الذي نشأت عنه مشاكل العالم. فضلاً عن ذلك فإن البلدان النامية تفتقر إلى الموارد اللازمة لتطبيق سياسات التحفيز الهائلة التي تبنتها البلدان المتقدمة.

ولكي يزداد الطين بلة، فمازال صندوق النقد الدولي مصراً على إرغام أغلب الدول، التي تلجأ إليه طلباً للمساعدة، على رفع أسعار الفائدة وخفض معدلات الإنفاق، الأمر الذي لابد أن يؤدي إلى تفاقم دورة الانحدار سوءاً. وإمعاناً في الأذى يبدو أن بنوك البلدان المتقدمة، خصوصا تلك التي تتلقى المعونات من حكوماتها، بدأت تتراجع الآن عن إقراض البلدان النامية، سواء عن طريق فروعها أو الشركات التابعة لها في تلك البلدان. وهذا يعني أن التوقعات بالنسبة لأغلب البلدان النامية- بما فيها تلك التي اتخذت التدابير السليمة كافة- كئيبة وقاتمة.

وكأن هذا كله لم يكن كافياً، فإذا بنا نفاجأ أثناء افتتاح اجتماع «دافوس» بمجلس النواب الأميركي وقد وافق على مشروع قانون يقضي باستخدام الفولاذ الأميركي في عمليات الإنفاق التحفيزي، على الرغم من الدعوة التي أطلقتها مجموعة العشرين بتجنب النزوع إلى الحماية في الرد على الأزمة.

وإلى سلسلة الهموم والمخاوف هذه نستطيع أن نضيف هماً آخر ملخصه أن المقترضين القلقين إزاء العجز الأميركي الهائل، وأولئك الذين يحتفظون باحتياطات ضخمة من الدولار الأميركي ويخشون أن تستسلم أميركا إلى إغراء تضخيم ديونها، ربما يردون باستنزاف المدد من المدخرات العالمية. وفي «دافوس» فإن هؤلاء الذين كانوا على ثقة من أن الولايات المتحدة لن تلجأ إلى تضخيم ديونها عمداً كانوا قلقين من أن يحدث ذلك دون قصد. كما كانت الثقة ضئيلة في براعة مجلس الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأميركي)- الذي تلطخت سمعته بفعل إخفاقاته الهائلة المتكررة فيما يتصل بالسياسة النقدية أثناء الأعوام الأخيرة- وقدرته على التعامل مع التراكم الهائل للديون والسيولة النقدية.

والآن يبدو أن الرئيس باراك أوباما يقدم الدَفعة القوية اللازمة للزعامة الأميركية، والتي باتت مطلوبة بشدة بعد أيام جورج دبليو بوش الحالكة السواد؛ ولكن المزاج العام في منتدى «دافوس» يوحي بأن عمر التفاؤل والثقة قد يكون قصيراً. لقد تولت أميركا قيادة العالم إلى العولمة. ولكن بعد الخزي الذي لحق بالرأسمالية على الطريقة الأميركية وأسواق أميركا المالية، فهل تقود أميركا العالم الآن إلى عصر جديد من النزوع إلى الحماية، كما فعلت من قبل أثناء أزمة الكساد العظمى؟

* جوزيف ستيغليتز | Joseph Stiglitz ، حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا، وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت وأحدث مؤلفاته كتاب "ثمن التفاوت: كيف يعرض المجتمع المنقسم اليوم مستقبلنا للخطر".

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top