*إلى كامل شياع
أداجيو Adagio مصطلح موسيقي من جذر إيطالي agio التي تعني الراحة واليُسر، ويُطلق على الحركة البطيئة في العمل الموسيقي، أبطأ من أدانتي، وأسرعُ من آرغو، لكنه صفةُ كلِّ حركةٍ بطيئة على الأغلب. في الساعات التي يعجز فيها العقلُ المفكر عن الإجابات أمام الأسئلة المحيرة، يُسلمُ القيادَ إلى القلب المفكر، وهذا، في حضرة ملاذه الموسيقية، يُسلمُ النفسَ إلى حيثُ حركةِ الأداجيو، لأن هذه الحركة، من دون حركات العمل الموسيقي، وحدها التي تأخذ بيد المستمع إلى العزلة، حيثُ: العزلةُ ماءُ غديرْ يتأملُ فيها النرجسُ فتنَتَه وزوالَ شبابه. كما تأخذُ المستمعَ إلى حضرة الموت المهيبة، حيثُ: الموتُ مُناجاةٌ للجسدِ تُهدهدُه وتُهوّنُ من أتعابه. كنتُ حين أسمع عملاً موسيقياً جديداً، أو أعاودُ سماعَ آخر قديم، عادةً ما أرجع لأصغي مرة أو مراتٍ للحركة البطيئة، هناك يبدو لي المؤلف الموسيقي أكثر رأفةً بي، وأكثر تواضعاً معي، وأكثر طواعية للحوار الداخلي، موسيقي كالفرنسي «فوريه» الحميمي في كل الحركات، قد لا يُحوجني إلى ذلك، لكن بيتهوفن المحتدم أبداً، المرتاب دون علّةٍ، التواق إلى الأعالي، ينحدر إلى الحركة البطيئة كمن ينحدر إلى عالم سُفلي، إلا في مرحلته الأخيرة التي انقطع فيها عن الدنيا، وطلّقها ثلاثاً. حيث صارت كل الحركات لا تتهاون بشأن الانتساب إلى بُحران الزمان الذي تنعدم فيه الحركة، زمان الموتى أو الخالدين، وهلْ منْ فرق؟ وكذلك موتسارت، الذي لا يتنازل عن حيوية الفتى المراهق فيه، فهو حين يدخل الأداجيو يدخله لائذاً لواذ ذي الحاجة، مثلي، فلا يبخلُ كلٌّ منا بالدموع، وشوبرت الوديعُ، الغنائيُّ، المُحتضِنُ، المتأهبُ على حافة التراجيديا، حتى في أخف مداعباتِه، ينتقلُ من أغنية طربٍ إلى أغنية أسى كمن يهجرُ ظلَّ صفصافةٍ إلى آخر. واضحٌ أن الموسيقيين يجدون في حركة الأداجيو فرصةَ التعبير عن أكثر أفكارهم ومشاعرهم عمقاً وعذوبة، ويحدث الأمر للمستمع ذي الدربة على المستوى ذاته، حين أتأمل قوةَ الحياة وغناها في تحليقِ طائر، أو عناق فتى لفتاة في مُفترق طرق، أجد في الحركة السريعة ما يكفيني، الحركة التي تبدأ بها السمفونيات، الكونشيرتات أو الرباعيات، وتنتهي، حتى في مشاعر الموت، والفقدان، والرحيل، تجد حاجتك في الحركة السريعة التي تبدو مثل طائر غريب على طرف رُدنك، لأن في موت الصديقِ المُقرّب شيئاً غير الفقدان، شيئاً يعمقُ الحوار المُفتقَدَ بينكما. هلْ أدلّك على الحركة الأخيرة في ثالثةِ بيتهوفن؟ حيثُ تنتشلك مخالبُ طائر التوق، وتحلق بك بعيداً عن مُعترك السوق والبائعين والمشترين، تماماً كما حلّقَ بك «جوادُ الحلم الأشهب» الذي وفّره السيّاب ذات يوم؟ إن حركة الأداجيو لا أسمعها رغبةً بملاذ آمن فقط. أحياناً كثيرة ألجأ إليها كمصدر استثارة لتُعيد توازن الإنسان الحيّ بي. تعيدُه عبر إلقاءِ مزيد من الضوء على تلك الأركان المُعتمة من الروح، تُعيدُه عبر مغامرة الاستكشاف الخطيرة للعالم الداخلي، أفعل ذلك دائماً حين أُنزلُ سيمفونيات غوستاف مالر من الرفوف، ولقد فعلها المخرج الإيطالي البارع فيسكونتي في مطلع فيلمه «موت في البندقية»، أُنزلها وأُبحر. إذا كان أداجيو الإيطالي ألبينوني الأشهر يحتل دقائق عشراً من الزمان، فإن لباخ بهوَ أداجيو أكثر رحابة، لأن كل عمل موسيقي وضعه باخ هو ابتهال وتهليل لعظمة الخالق. في حين كرّس بيتهوفن موسيقاه كصوت منفردٍ لروحه: «ما بقلبي يجب أن يخرجَ، وما عليَّ إلا أن أدوّنه». ولكن حركة أداجيو سلوانٌ أيضاً، في كل أبعادها الموزعة على تنوّعِ أولئك الذين أشرتُ إليهم، تبدو بها التنهدات، والدموع، والتأمل، والبحث، والابتهال عناصرَ تكوينٍ واحدٍ متكاملِ الأداء. أضعها الآن أمامي، أغرقُ فيها، واحداً إثرَ آخر، وفي بُحران ذلك الغرق يتيسرُ لي الحديث العميق مع صديقي الراحل. *أسطوانات «سي دي» خمس أصدرتها دار «Warner»
توابل
أداجيو
05-09-2008