يرتبط الشعر بأحلام وردية، وتخيلات كثيرة يعيشها الشاعر، لاسيما في المراحل الأولى من صباه. ويندر أن نجد شاباً أو فتاة، لم تخطر بباله الكتابة، أو يدوّن بعض أحلامه وخواطره في أوراق خاصة، يمزقها، ما إن يتجاوز مرحلتها العمرية، أو يندمج في واقع الحياة.

Ad

يبدو لافتاً أمر الشعراء الذين يهجرون الشعر وهم في أوج عطائهم الشعري والإبداعي، إلى أمور أخرى يمنحونها الأولوية، ويرون أن الحياة أوسع مدى، وأكثر عمقاً من الشعر ذاته. ولعل أشهر الحالات، ما يُروى عن الشاعر الفرنسي آرثر رامبو (1854-1891)، الذي كتب قصائد شعرية رائعة، وهو في سن الـ16 وهجر الشعر وهو في سن العشرين. أربع سنوات فقط صنعت أسطورة رامبو الشعرية، مع الأخذ بالاعتبار أن هناك الكثير من المبالغات التي تروى من حياة هذا الشاعر، سواء في ما يتعلق برسائله، التي يُشك في نسبة بعضها إليه، أو كتاباته النثرية الأخرى، بالاضافة إلى سلوكه الحياتي، الذي وُصف بالشذوذ والصعلكة. هجر رامبو الشعر، واتجه إلى التجارة، عمل في شركة بناء في قبرص 1880 ثم في شركة في عدن، واتجه إلى شواطئ الصومال واثيوبيا، وعمل في تجارة السلاح.

لم يكن رامبو النموذج الأوحد بالنسبة إلى الشعراء الذين يهجرون الشعر، بيننا في الكويت نماذج كثيرة، الشاعر أحمد النبهان الذي أصدر ديوان «الأب مفتتح-سيرة ذاتية للولد»، وعمل في الصحافة الأدبية ردحاً من الزمن ثم هجر الشعر، ويتجنب حتى رؤية الشعراء أو التحدث إليهم. وكذلك الشاعر سعد فرحان الذي نشر مجموعة من القصائد تنبئ عن موهبة حقيقية، حتى وإن لم يجمعها في ديوان، ثم اختفى هو الآخر.

ومن الشعراء العرب المقيمين في الكويت يحضرني نموذج الشاعر السوري مخلص ونّوس، أحد أعضاء ملتقى الثلاثاء البارزين بين عامي 1996-1999 ثم اختفى بعد أن أصدر ديوانه، «شجار الكلام». أذكر حين كنا نعقد ليالي ملتقى الثلاثاء في مسرح الخليج، كان ونوس شاعراً نشيطاً، وغزير الانتاج، ويندر أن يمر أسبوع أو بضعة عشر يوماً، من دون أن نقرأ له قصيدة في إحدى الصفحات الثقافية المحلية. لست أدري أين أخذته الأيام، ما أعلمه عنه أنه مازال مقيماً في الكويت وغارقاً في الوظيفة حتى قدميه. ويبدو أن ونوس مازال متابعاً للحالة الثقافية المحلية، ويراقبها عن بعد. في تعقيباته المتعلقة بمقال كتبته ذات مرة وتطرقت فيه إلى شعراء ملتقى الثلاثاء يقول: «صحيح أنني اخترت العزلة، إلا أن صديقي «غوغل» يوافيني بهواجسكم. نادي ودخيل، وكريم، وصلاح، ومختار، وآدم. قرنفلة في دمي من هواهم».

اختار ونّوس إذن العزلة، ولكن ماذا عن قصائده، ورومانسياته الحالمة، هل مازال يكتبها كعهدنا به؟ يبقى السؤال معلقاً والإجابة لديه.

وفي السياق العربي تبدو النماذج كثيرة لشعراء يهجرون الشعر، بعضهم تتوارد إلينا أخبارهم، وآخرون يطويهم النسيان. سألت مرة عن الشاعر المصري ناصر فرغلي، وكان مثقفاً وصوتاً شعرياً موهوباً، فاز بإحدى جوائز سعاد الصباح، ونشر قصائده في مجلات مرموقة من بينها «الكرمل». أخبرني الصديق الشاعر مهاب نصر أن فرغلي هجر الشعر، واتجه بداية إلى العمل الإعلامي في دولة الإمارات العربية المتحدة، ثم انتهى به المطاف في الولايات المتحدة حيث أنشأ مشروعه الخاص «بوتيك» للأنسجة والملبوسات.

قرأت مرة عن الشاعر اليمني محمد القعود رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين فرع صنعاء أنه هجر الشعر والأدب، متجهاً إلى إحدى دول الخليج، ليعمل في مهنة ليس لها علاقة بالأدب، في سبيل توفير منزل لأسرته الصغيرة، بعد أن عمل في خدمة الثقافة 15 عاما، من دون أن يستطيع توفير المنزل، أو لقمة العيش الكريمة لأبنائه.

ما السبب الذي تراه يجعل الشعراء يهجرون الشعر؟ هل هو الإحساس باللاجدوى، أم ضغوط الحياة، أم أن ثمة بريقاً وحقيقة أخرى غائبة يصعب اكتشافها إلا بعد هجر الشعر ونسيانه؟