نحتاج، نحن ككتّاب ومثقفين إلى منابر أكثر استقلالا ماديا وسياسيا، وإلى مجتمع كتابة أكثر شجاعة وتضامنا، وإلى تعليم وإعلام أكثر احتفاء بالمعرفة والمعلومة والواقعة والحقيقة، باختصار إلى ثورة على أوضاعنا الراهنة من أجل انتزاع مساحات أوسع لحرية القول وللحقيقة العيانية.
نكتب عن العالم العربي أو الوطن العربي، عن الدول العربية أو الأنظمة العربية، مضمرين أن ما نقوله ينطبق عليها جميعا. فوق أن هذا قلما يكون صحيحا، فإن معظمنا لا يعرف شيئا ذا قيمة عن غير بلدانه. بلداننا أضحت معقدة، ومشكلاتها وفيرة إلى درجة أن المرء منا لا يكاد يحيط بجوانب من أوضاع بلده. قد يمكن أن نعمم على البلدان العربية كلها أو بعضها، لكن في مجالات محددة جيدا، وبعد الدراسة التفصيلية لما يخص تلك المجالات وليس قبلها. نستطيع أن نقول مثلا إن أيا من البلدان العربية لا يعرف تداول السلطة. هذا صحيح بالفعل، لكنه يخفي تفاوتات أكيدة: في المغرب تداول على مستوى الحكومة؛ في الكويت حياة نيابية نشطة، بل صاخبة؛ في العراق أوضاع مستجدة لما تستقر بعد؛ في لبنان قد يتغير السياسيون لكن النظام السياسي الطائفي ثابت لا يتبدل. القصد أن التعميم على البلدان العربية قد يكون ممكنا «بَعْدياً»، لكنه خاطئ بالتأكيد «قَبْلياً»، بالطبع يمكن أن نتكلم على مستوى يتوحد فيه العرب فعلا: الثقافة العربية. نقصد اللغة العربية والثقافة العليا، لكن الثقافة في بلداننا لا ترتد إلى ذلك. هنا اللغات أو اللهجات المحلية، وهناك الثقافة الشعبية المختلفة، وهناك الاقتصادات ومستويات المعيشة المختلفة، وهناك التجارب التاريخية المختلفة، وهناك فوارق ثقافية مترتبة على اختلاف البيئيات الاجتماعية والطبيعية. لكن لماذا نعمم؟ أولا بحكم العادة، ولعل أصل العادة هو ضعف التخصص في مجتمعاتنا ونوعية البرامج التعليمية في مدارسنا، فضلا عن كون التعميم أسهل من التخصيص، ولا يحتاج ما يحتاجه هذا من مثابرة واجتهاد، وثانيا لسبب إيديولوجي يتمثل في إرادة حجب الشرعية عن دولنا القائمة؛ فقد افترض جيل كتاب عقدي الستينيات والسبعينيات خصوصا، أن معرفة الأوضاع العينية لبلداننا تعني الاعتراف باستقلالها وتقتضيه، وهذا أمر لم يكن مقبولا من وجهة نظر الضمير القومي العربي المهيمن آنذاك. نخشى أن يفضي الكلام على سياسة مصرية وثقافة سورية ومجتمع كويتي واقتصاد لبناني... إلى تثبيت تمايز البلدان المعنية واستقلالها عن بعضها، تشكلها كأمم مستقلة. ثالثا لأسباب رقابية. نخشى أن نتكلم على أوضاع سورية ينخرها القمع والفساد والتفرق الاجتماعي، فنتكلم على القمع العربي والفساد العربي وما إلى ذلك. والعنصر الرقابي حاضر بخاصة في الكتابة السياسية. نمارس السياسة في الكتابة (نعمم، «نلطِّش»، نتكلم بلغة الرمز...) حين نكتب في السياسة لأننا نخشى أن يطولنا ما لا يسر إن خصصنا. رابعا، ثمة لذة التعميمات الكبيرة. من يتكلم على هذا الشأن السوري أو ذاك ليس كمن يتكلم على شأن يهم العرب جميعا، وقد نضيف خامسا أن هناك منابر نشر عربية، وبدوافع الانتشار والتوزيع، تحرص على اعتماد لغة عمومية لا يعترض عليها أحد. الأمر هنا يتعلق باقتصادات النشر ووسائل الإعلام، لكنه يتصل أيضا بالعلاقات الحساسة بين الدول العربية، نظر لكون أكثر منابر النشر مرتبطة بهذه الدولة أو تلك. هنا تكون الكتابة العمومية هي الكتابة الآمنة. لكن أيا يكن السبب فإن اعتياد الكتابة العمومية يشجع على الكسل وتدني المؤهلات، ويدفع أكثرنا إلى ضرب من كتابة بلا ملامح، لا تزعج أحدا ولا ترضي الحقيقة. وفوق ذلك لا يؤدي هذا الضرب من الكتابة إلى أي تراكم معرفي، وسبب ذلك بسيط جدا: هذه معرفة بلا موضوع، أي بالضبط بلا معرفة. نقول كلاما غير محدد لأننا لا نتكلم عن شيء محدد. كلام في كلام. هل «المكْلمة» العربية، كثرة كلامنا وقلة فعلنا وتدني مستوى معرفتنا وتفكيرنا، منفصلة عن هذا الواقع؟ كيف يمكن الخروج من هذا الشرط البائس؟ حاولنا أن نقول إنه متصل بسياسات الكتابة واقتصاداتها وإعلامها. هذا هو الواقع الذي يتعين تغييره، وأول التغيير أن نخرق، أفرادا وقدر المستطاع، القواعد الضمنية للكتابة السياسية. أعني أن نكف عن التعميم، وأن نحاول تسمية الأشياء (بعضها) بأسمائها. أدرك جيدا كما أن هذا صعب، وكم يمكن أن يكون خطيرا ومكلفا على الكتّاب! وكم أنه فوق ذلك لا يكفي! نحتاج إلى منابر أكثر استقلالا ماديا وسياسيا، إلى مجتمع كتابة أكثر شجاعة وتضامنا، إلى تعليم وإعلام أكثر احتفاء بالمعرفة والمعلومة والواقعة والحقيقة، باختصار إلى ثورة على أوضاعنا الراهنة، لكن إن كنا عاجزين عن إحداث تغيير جذري في أحوالنا، فلعلنا (أعني الكتاب والمثقفين) غير عاجزين عن تغيير بعض ممارساتنا الكتابية والثقافية، باتجاه انتزاع مساحات أوسع لحرية القول وللحقيقة العيانية. يتمنى المرء لو يكون خارج هذا الحال التعيس برمته، لكن ما دمنا داخله فإن علينا أن نعمل على تغييره، ولعل هذا في سورية بالذات أمر حيوي، قلما ألف سوريون كتبا عن سورية المعاصرة، أعني كتبا علمية وذات قيمة، ويقدر أن كل ما كتب عن سورية الحديثة في العالم وخلال 90 عاما من تاريخها يقل عن 950 كتابا. هذا قليل جدا. والسر فيه بلا شك التقاء الإيديولوجية العروبية مع شروط الرقابة الفكرية والكتابية الخانقة، ومع اقتصادات الكتابة والنشر غير المؤاتية.يبقى أن نرجو القارئ حسن النية ألا يتسرع ويحكم على كاتب هذه المقالة بأنه معاد للعروبة، الأمر بعيد جدا عن ذلك، ونعتقد أن العروبة تكسب من التصالح مع دولنا القائمة، من الاعتراف بها ومعرفتها ومراكمة المعارف حولها، ومن عقلنتها وتكونها دولا سيدة مستقلة. دول كهذه تتعاون وتكتشف المشترك بينها، فيما من شأن دول مهجوسة باستقلالها وشرعيتها ألا تكف عن نهش غيرها وتقليل مساحة المشترك مع محيطها. وعلى كل حال، لا يليق أن تكون العروبة «قطاعا عاما» مستباحا، أو كيس ملاكمة «نفشُّ فيه غلّنا» ممن لا نستطيع رميهم حتى بوردة.* كاتب سوري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
الكتابة العمومية كسياسة كتابة
28-05-2009