مأزق آخر للعرب
يبدو أن آصرة من شبهٍ قوية، تقوم متينة بين الدولة العبرية وجيرانها، خصومها من دول العرب وشعوبهم، هي المتمثلة في أن الجموع في الحالتين وعلى الضفتين أكثر تطرفا من الحكام، تدفع باتجاه مثل ذلك التطرف أو تبجله.قد يكون ذلك مفهوما من قبل الجموع العربية، وهي التي شهدت ولاتزال على مظلمة قصوى واستثنائية بقدر ما هي حميمة لصيقة بوجدانها، هي اغتصاب فلسطين واجتثاث شعبها، وهي لذلك لا تقر بـ«اعتدال» ترى الحكّام مقبلين عليه، فلا تحسبه غير «تفريط» و«تخاذل» و«تقاعس» أو محض «خيانة» إن اشتطّت في التوصيف، وهي كثيرا ما تفعل. خصوصا أن مسلك الاعتدال ذاك لم يرتب عدالة وإن جزئية، إن سلمنا بإمكان تجزيء العدالة أصلا.
بعض مردّ ذلك إلى قصور لدى الحاكمين ليست «الخيانة» في عداده حُكما، مُكابدةً لإكراهات، يمليها ميزان القوة واعتبارات أخرى، لا تترك من مناص غير تلك السياسات أو هكذا يُعتقد، لكن الحاكمين يُخفقون في نقلها، بمفردات واضحة وكاستراتيجيات متكاملة منسجمة إلى جموعهم، فيبدون كمن يتستر على أمر مريب، أو كمن يستجيب دواعي غير مفهومة أو صادرة عن إرادات خارجية.يبقى مع ذلك أن ذلك «التطرف» العربي، مع أن المجال لا يتسع هنا للخوض فيه بإسهاب، ومع أن إيديولوجيات بعينها تنفخ فيه وتسعّر أواره، طارئ وعرضي وغير تكويني، على خلاف ما يقول رأي شائع، يبلغ في بعض الأوساط مبلغ اليقين. فهو تطرّف ناجم عن موجب هو، في المقام الأول، المظلمة الفلسطينية وتماديها الذي لا يبشر ببلوغها حدّا معلوما والتوقف عنده. إذ إن ما قد يكون من عوامل استفحال ذلك «التطرف» ومن بواعث تناميه أن المنحى التسووي، الذي آل إليه الجانب العربي وتوخاه، «إجماعا» لا يكاد يشذ عنه حتى الممانعون، على ما دلت وثيقة كتلك المتمثلة في «المبادرة العربية»، إنما استوى تسليما بتلك المظلمة الأصلية واستدخالا لها، فما عاد الجهد يُبذل إلا في سبيل الحد من إجحافها، بتمكين الفلسطينيين من كيان سياسي يقنع بما دون الوطن الأصلي بكثير، بل بما دون الدولة ربما، التي يُستبعد أن تكون ناجزة السيادة. التطرف العربي هو، من هنا تطرف رد فعل، لا ينبع، في صفته تلك من ذاته.وتلك بداهةً ليست حال نظيره ومقابله، أي ذلك الإسرائيلي. فالتطرف هنا ليس أحد احتمالين، كما في أي حالة أخرى «عادية»، أي لا تبلغ من الاصطناع شأو تلك الإسرائيلية، بل هو احتمال أوحد، أو هو طبيعة وصفة تأسيسية. وهو لذلك ليس بالملمح الإيديولوجي المحض، بل يحوز تلك الصفة من حيث تفعيله ومن حيث طريقة انبعاثه للوجود. وهكذا، إذا كان بوسع الاشتراكية أو القومية أو أي اتجاه أو «فلسفة» أخرى يؤخذ بها، أن تكون متطرفة أو ألا تكون، حسب ما قد تمليه ملابسات بعينها، تاريخية أو سوسولوجية أو سواها، فإن الصهيونية لا يمكنها إلا أن تكون متطرفة، طبيعةً لا خلاص لها ولا فكاك. سبب ذلك أن الإيديولوجيا تلك لا يمكنها أن تتفعّل في التاريخ، أن تتجسد واقعة ملموسة إلا بواسطة فعل متطرف، قاطع مع ما سبقه، متنكر للواقع الذاتي والمحيط، وما اغتصاب فلسطين إلا تطرف أقصى من ذلك القبيل، عملية اجتثاث، وانتحال لـ«حق» ليست له من أسس ومن مقدمات عينيّة، وليس من سبيل لـ«إحقاقه» إلا بمثل تلك الوسائل. مؤدى ذلك أنه إذا كان التطرف في حالات أخرى إجرائي أو وظيفي، فهو هنا، في هذه الحالة الإسرائيلية، تكويني وجودي وشرط شارط.لا يمكن لإيديولوجيا كتلك أن تتسع للحلول الوسطى، طبيعتها ذاتها تحول دون ذلك وليس ما قد يحفل أو لا يحفل به الواقع من شروط التوصل إلى ذلك الضرب من الحلول. لذلك فإن الدولة العبرية تجد صعوبة أو امتناعا قد يبلغان مبلغ العجز عندما يتعلق الأمر بالتسوية، على ما دل ما يزيد على العقدين من التفاوض المضني وغير المجدي، كما تُقبل على الحروب، في أقصى مظاهرها فتكا، أي إبادة، بيسر بالغ، وما ذلك إلا لأن الخيار الأول، يناقض تلك الإيديولوجيا على نحو جوهري، يخاطبها بما ليس فيها ويلتمس منها ما لا قبل لها بمنحه، في حين أن الثاني منسجم مع سماتها الأساسية والتكوينية تمام الانسجام.ولعل ذلك ما يفسر ظاهرة كتلك التي تشهدها الحملة الانتخابية الإسرائيلية هذه الأيام، حيث يبدو ليكود بنيامين نتانياهو، وهو اليميني المغالي، الأوفر حظوة بالفوز، فلا يكاد ينافسه أو يحرجه إلا من هم على يمينه، شأن حزب «إسرائيل بيتنا»، في حين يتراجع كل من حزبي «كاديما» و«العمل»، بالرغم مما اقترفاه في قطاع غزة، كأنما هناك تطلب لتطرف وللإمعان فيه يلوح الحزبان قاصرين عن تلبيته....وتلك من خاصيات «الديموقراطية» الإسرائيلية قياسا إلى سواها، فإذا كان الإجماع، وبالتالي الفوز غالبا ما ينعقد في هذه الأخيرة على الوسط، أي على الاعتدال، فإنهما لا يتحققان في إسرائيل إلا على الغلو والتطرف، فيرتقيان في ذلك الكيان إلى منزلة الهوية.وذلك هو التحدي العضال الذي يواجه الفلسطينيين والعرب في تعاطيهم مع الدولة العبرية، «مقاومين» كانوا أم «تسوويين».* كاتب تونسي