Ad

الغياب العربي خطأ استراتيجي، وإذا كنا نشكو من نفوذ إيران ونتهم هذا وذاك فلماذا لا نبادر بالقيام بمسؤولياتنا القومية هناك بدلاً من الشكوى والاتهام؟! لقد كان لنا دور إيجابي في الأزمة اللبنانية فلماذا لا يكون لنا مثله في مساعدة العراقيين؟

عادت ليالي بغداد الساهرة وانكسرت شوكة الإرهاب وانحسرت عملياته وأصبح طريداً لا مأوى له بعد أن تخلى عنه من احتضنوه، وحان موسم عودة العرب إلى العراق بعد تردد طويل وتعلل بالظروف الأمنية وتخوف على السفراء والدبلوماسيين.

ها هي أسواق بغداد تعود عامرة بالسلع المتنوعة وتكتظ بالزبائن، وها هي المطاعم والمقاهي تفتح أبوابها إلى ساعات متأخرة من الليل، وها هي العائلات العراقية تخرج للتسوق والتنزّه بحرية وأمان، نعم لقد أصبح الإرهاب لا مكان له في العراق بعد أن نبذته العشائر العراقية السنية والتي كانت مخدوعة بشعارات «المقاومة» ولم تكتف تلك العشائر بطرد الإرهابيين من ديارهم بل شنّت حرباً لا هوادة فيها ضدهم.

لقد استفاقت العشائر السنية أخيراً وأدارت أسلحتها ضد الجهاديين «الكذبة» تطهر ديارها من أعمالهم المنكرة فأصبحوا مجاميع هاربة إلى أوكارها الأخيرة في «الموصل» التي تم تدميرها والقبض على معظم أعضائها أخيراً على يد الجيش العراقي.

لقد كانت «نقطة التحول» الأساسية في هذا التغيير لصالح الاستقرار، «صحوة» العشائر العراقية التي أدركت أن الجميع خاسر إذا تمكنت «القاعدة» من العراق وحولتها إلى ما يُسمى بـ«دولة العراق الإسلامية» على نموذج دولة «طالبان» المقبورة، لقد كانت صحوة العشائر السنية صحوة حقيقية وصادقة، وفي الأنباء أن عشائر محافظة صلاح الدين في تكريت، سلّمت أكثر من «500» من أبنائها الذين يُعتقد أنهم كانوا يقاتلون مع «القاعدة» إلى القوات الأميركية التي وعدت بعدم اعتقالهم إنما إخضاعهم لبرامج تأهيل واندماج في المجتمع العراقي، تأكيداً للمصالحة الوطنية وبدءاً لصفحة جديدة. لقد تم تفكيك تنظيمات «القاعدة» الأخيرة في «نينوى» وتّم اعتقال أكثر من «1500» من العناصر الإرهابية بينهم قياديون هاربون فيما سمي بعملية «أم الربيعين». لقد نجحت القوات العراقية في الموصل مثلما نجحت في البصرة من قبل، حيث تمكنت من تصفية ميليشيات «الصدر» التي كانت تعيش فساداً وقتلاً في الجنوب، وهكذا بدأ الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة وبدأت بقاياه بالفرار إلى حيث أتت منه في كهوف «وزير ستان» بين حدود باكستان وأفغانستان، حيث تجد المناخ الملائم لنشاطه. وكان من نتائج التحسن الأمني وبوادر الانفراجة السياسية عودة الخليجيين إلى العراق، وكانت دولة الإمارات هي السباقة في الخطوة الأولى عبر مبادرة وزير خارجيتها الشيخ عبدالله بن زايد الذي قام بكسر حاجز الخوف وزار بغداد وقام بتعيين سفير دولة الإمارات في العراق، كما أكد الشيخ خالد بن حمد آل خليفة وزير الخارجية البحريني أن بلاده في صدد تسمية سفيرها في بغداد خلال أيام، وصّرح بأن «على الدول العربية ألا تترك العراق مرتعاً لمن هب ودب، ووقوفنا مع العراق مسؤولية تمليها علينا ضمائرنا قبل مصالحنا» وقد وعدت السعودية بفتح سفارتها - أيضاً– والبقية في الطريق.

لقد كان غياب الدور العربي عامة، والخليجي خاصة، عن العراق، أمراً غير صائب خصوصاً أن العراق كانت تواجه شتى مخاطر التقسيم والتدخل الإقليمي ويعاني شعبها ويلات الأعمال الإرهابية، وكانت تنادي العرب للوقوف معها ومساندتها، لكن العرب كانوا يسوّفون ويتعذّرون بعدم وجود الأمن، خصوصاً بعد خطف السفير المصري «إيهاب الشريف» وقتله على أيدي العصابات الإجرامية وذلك بعد وصوله عام 2005. وأذكر أني كتبت مقالة في حينه بعنوان «لا تتنازلوا للإرهاب، لا تخفضوا البعثة المصرية في بغداد» ولكن الحكومة المصرية اضطرت إلى تخفيض البعثة الدبلوماسية مؤقتاً، بعد الموقف الذي اتخذته المعارضة المصرية عبر صحفها التي لم تكتف باتهام الحكومة المصرية وتحميلها دم الشهيد بحجة أنها أرسلت السفير إلى «حكومة غير شرعية» رضوخاً لأميركا، إنما افترت كذباً حين نقلت إحدى صحفها عن زوجة الشهيد اتهامها للحكومة مع أن زوجة الشهيد الصابرة كذّبت ما نسب إليها، واتهمت تلك الصحف بعدم الأمانة، وأكدت أن زوجها في العراق كان يقوم بهمة وطنية، ولكن كما يقول جهاد الخازن: «إن فاجعة الفواجع، أن المعارضة التي تمثّل الأمل في التغيير إلى الأفضل عادة، هي الأسوأ من النظام في الحياة السياسية العربية» لقد تاجرت المعارضة المصرية بدم السفير لأهداف حزبية بحتة، واتهمت الحكومة من باب «الغّل» ووصل الأمر بأحدهم أن كتب في إحدى الصحف القطرية «إيهاب الشريف، قتله من أخرجه» تمثلاً بمقولة «معاوية» حين قتل جيشه، الصحابي الجليل «عمار» فقيل له إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: عمار تقتله الفئة الباغية، فقال معاوية «قتله من أخرجه».

هذه «معارضة» لا أمل فيها، إذ كيف تصف حكومة «وطنية» انتخبها «8» ملايين عراقي بأنها «غير شرعية» أما الإرهاب الذي كان يحصد أرواح العراقيين بمعدل «100» قتيل فإنه «مقاومة» وطنية شريفة، لذلك لا نعجب من تصريح المرشد العام لجماعة الإخوان مهدي عاكف الذي اعتبر، زعيم القاعدة «أسامة بن لادن» مجاهداً، وأنه لا يشك في صدقه في مقاومة الاحتلال، تقرباً إلى الله عز وجل، حقاً إنه «بن عاكف»!!

«الحكومة العراقية» ليست بحاجة إلى اعتراف المعارضة المصرية أو غيرها بها، فشرعيتها ثابتة ومستمدة من الشعب العراقي أساساً، ومن الاعتراف الدولي من قبل «4» سنوات، سواء من قبل مجلس الأمن وبقية المنظمات الدولية والجامعة العربية ورابطة العالم الإسلامي، ومسألة فتح السفارة العربية في بغداد لن تزيد في شرعية الحكومة العراقية شيئاً بل إن الحكومة العراقية تملك من الاعترافات الموثقة بها أكثر من بعض الدول العربية، لكن العرب هم الذين بحاجة أن يوجدوا هناك، خصوصاً الخليجيين، وذلك من أجل مصالحهم هم قبل مصلحة العراقيين وغيابهم خسارة بالدرجة الأولى لأن الآخر الذين يخشون نفوذه وتغلغله موجود هناك، ويملأ الفراغ الذي تركوه. بحجة التخوفات الأمنية لذلك كان «المالكي» حريصاً ومباشراً حين سئل عن تقييمه للعلاقة العربية في العراق فقال: «نأمل ممن يقف بعيداً عن العراق أن يتراجع من أجل المصلحة المشتركة» ثم أكد قائلاً: «العراق ليس بحاجة إلى أموال أو عطف من دولة، لدينا بلد غني والحمد لله، ولكن الدول بحاجة إلى انسجام يناسب مصالحها، وعملية فتح السفارات لن تأتي العراق بعائد مادي بل بمصلحة مشتركة، بعض الدول الغنية تريد الاستثمار، والعراق فرصة واعدة للاستثمار، وفتح السفارات والعلاقات القوية سيوفران لشركاتها وشعوبها فرصاً واعدة» ويقول «زيباري» وزير الخارجية «إن وجود السفراء العرب سوف يعطي للحكومة العراقية صورة أوضح لما يجري وهو نوع من التواصل والاحتضان العربي للعراق» لا يمكن قبول المبرر الأمني كحجه لعدم فتح السفارات بعد التحسن الأمني وتأكيدات حكومة العراق بتوفير الحماية الكافية للسفراء، وتأمين المنطقة المحيطة بالسفارات، ولماذا يكون العرب أكثر خشية على سفرائهم من إيران والدول الكبرى التي فتحت سفاراتها في بغداد وفي خارج المنطقة الخضراء؟!

الغياب العربي، خطأ استراتيجي، وإذا كنا نشكو من نفوذ إيران ونتهم هذا وذاك فلماذا لا نبادر بالقيام بمسؤولياتنا القومية هناك بدلاً من الشكوى والاتهام؟!

لقد كان لنا دور إيجابي في الأزمة اللبنانية فلماذا لا يكون لنا مثله في مساعدة العراقيين لوقف مسلسل العنف وتطبيع العلاقات العربية-العراقية؟!

إن الساحة العراقية اليوم مهيأة لنا أكثر من قبل والمطلوب دور عربي فاعل ومؤثر، بل هو محل ترحيب الشعب العراقي بكل طوائفه، لكن المهم هو توافر الإرادة السياسية وصدق النية وعدم الانزلاق إلى التحيزات المذهبية والطائفية والعرقية.

على أهل الخليج أن يتذكروا أن العراقيين كانوا يستغيثون من نظامهم الجائر الذي جثم على أنفاسهم «30» سنة، وعندما تحرروا منه كان ذلك من مصلحة الخليجيين مثلما هو من مصلحة العراقيين، هل كان لأهل الخليج أدنى أمل أن ينعموا بما هم فيه اليوم لو كان «جار السوء» مقيماً على حدودهم الشمالية يتهدّدهم؟!

* كاتب قطري

- بالمشاركة مع «الوطن» القطرية