إنهم قليلون... فحافظوا عليهم!
«قال طاغور: الذي يعدل عن كونه صديقك... لم يكن صديقك قط»!***
والحكاية أننا نستهين بكلمة «صديق»... نطلقها على كل من هب ودب، أي واحد يجلس معنا لدقائق، أي واحد يعمل معنا في مكان واحد، أي واحد نعرف اسمه وعنوانه، صديق، ولذلك، أصدقاؤنا بالعشرات والمئات وربما بالآلاف، ففي ذاكرة كل منا ملف ضخم اسمه «الأصدقاء» فيه كل الأحبة وغير الأحبة، الأعزاء وغير الأعزاء، من اتسع قلبه لنا ومن اعتذر لعدم وجود أماكن شاغرة لنا!وكان لي صديق- حسبته كذلك- أعرفه منذ سنين، لم ير مني إلا كل خير، ولم أر منه للأمانة إلا كل خير، وتناقشنا يوما في موضوع غير ذي أهمية، واحتدم نقاشنا، تمسكت برأيي وتمسك برأيه، وانتهى الأمر بود، هكذا حسبت وهكذا ظننت، فقد ضحكنا ثم تعشينا، وذهب كل منا في حال سبيله.كان هذا في أواخر رمضان الماضي، والتقينا في أول أيام العيد في ديوان أحد الأصدقاء، فأعاد صاحبنا فتح موضوع النقاش مرة أخرى، بنفسية أخرى وبمزاج آخر، كنت قد نسيت الأمر تماما، لكنه لم ينسه بالمرة، فقد جاء بقلب مملوء بالحقد والرغبة في الجدل والإفحام ورد الاعتبار لعقله المهزوم، جاء يلقي الاتهامات يمينا ويسارا وتحول كلامه بمرور الوقت لشخصانية مقيتة، وأدركت أن الرجل يحمل غلا وحقدا عليَّ لا تقوى على حمله الجبال، وعجبت منه... وتساءلت في نفسي: لمَ كل هذا؟ ألأنني خالفته في الرأي ورأيت الحقيقة من زاوية مختلفة!وثقلت كلماته علي... وبدأت قلة الأدب والذوق تظهر ربما دون شعور منه، ولم أستطع تحملها وتحمله، ونويت أن أغادر المكان لكنني سألته قبل أن أغادر: هل كلامك هذا موجه لصديق أم لعدو؟ قال: لصديق! قلت: يا سيدي أنت لم تلتزم حتى بأبسط مبادئ الصداقة وهي الاحترام! ولذلك، لا أريد أن أناقشك أو تناقشني، والأمر بالنسبة لي منتهٍ، ولم يعد يعنيني إن كنت على حق أم على باطل... سلام يا صاحبي! وكانت قطيعة، لم ألتق به من يومها ولم يلتق بي، لا أنا سعيت إلى رؤيته ولا هو سعى، ولا أردت أنا أن أعتذر له ولا هو أراد، وكل في حاله سعيد ومرتاح.لكنني بمرور الوقت رأيت الصورة، واكتشفت أنني من الأول خدعت نفسي حين اعتبرته صديقاً من الأصدقاء، فلم يكن الرجل في حقيقة الأمر كذلك، فرغم معرفتي به لسنوات لا أتذكر أنني حادثته يوما بالهاتف، بل إنني لا أعرف رقم هاتفه حتى، ولم يدر بيني وبينه حديث شخصي، بل كل أحاديثنا كانت عامة، ولقاءاتي معه كانت في ديوانية أحد الأصدقاء، وهو في واقع الأمر صديق صديقي وليس صديقي، والفارق كبير بين الاثنين!وكلمة «صديق» أكبر من أن تطلق على شخص كهذا، فكلمة صديق تعني الشخص الذي تتحدث إليه كما تتحدث إلى نفسك، الذي يسامحك إن أخطأت ويقبل عذرك إن اعتذرت، من يحسن بك الظن دوما ويلتمس لك العذر، من يقف معك في السراء والضراء فيفرح لفرحك ويحزن لحزنك، من يؤثرك على نفسه ويتمنى الخير لك كما يتمناه لنفسه، من يصارحك بعيوبك ويثني على صفاتك الطيبة، من يلومك سراً ويمدحك جهراً، من يستقبلك بابتسامة ويودعك بمثلها، من يستشعر حاجتك ويسعى بها دون أن تطلب منه ذلك، من يصادقك «لله في لله» دون انتظار لمصلحة مادية أو معنوية، من تفخر بصداقته ويفخر بصداقتك، من يتمنى لك ما يتمناه لنفسه، بل هو نفسك ذاتها وقد سكنت جسداً آخر، وهو الأخ الذي كما قال الأولون لم تلده أمك!هذا هو «الصديق» وهذه هي صفاته وأفعاله، فكم يا ترى من أصدقائكم من يستحق كلمة صديق؟ قليلون أليس كذلك؟! إذن... حافظوا عليهم، فأصعب شيء هذه الأيام أن تجد أصدقاء حقيقيين! كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء