-1-
يبدو أن أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، عرفت نفسها جيداً، من خلال النكبات والدمار الذي أُلحق بها، نتيجة لخوضها غمار هذه الحرب، كما يبدو أن الحرب العالمية الثانية، قد سببت أزمة نفسية للأوروبيين مواطنين وحكاماً، وحرّمت عليهم دخول معترك حربي جديد بعد ذلك. ومن خلال استعراضنا لمختلف الأزمات السياسية التي مرّ بها العالم بعد الحرب الثانية إلى الآن، نرى أن تصدي أوروبا لمشاكل العالم السياسية كان ضعيفاً ومفتقداً في معظم الأحيان، ولولا حلف الناتو والمبادرات الأميركية، لما سمعنا لأوروبا صوتاً في المحافل الدولية خارج أوروبا. ولنا من القضية الفلسطينية خير مثال على ذلك، فرغم أن أوروبا هي التي قررت وصنعت الكيان الصهيوني في فلسطين، وهي التي دعمته ورعته، في أيام طفولته وصباه المبكر، فإن أميركا هي التي تولّت مهمة مواصلة الدعم، وبناء الدولة العبرية في فلسطين. كذلك الأمر بالنسبة لأزمات المنطقة العربية، ومنها ما يتعلق بالعراق، فمنذ أن نال العراق استقلاله عام 1930، لم يعد لبريطانيا شأن كبير في المنطقة، إلا باشتراكها العسكري الخجول في الحملة على العراق عام 2003. في حين لم يكن لدول أوروبية أخرى غير وجود عسكري رمزي، بحيث شكَّلت أميركا وبريطانيا 98% من هذه القوات، وكان لأميركا نصيب الأسد من هذه النسبة. وفي التحالف الدولي في 1991، الذي قادته أميركا، كانت هناك قوات تابعة لـ38 دولة، منها قوات رمزية، من 13 دولة أوروبية فقط. وهناك نسبة محدودة من القوات الأوروبية في قوات التحالف الموجودة في أفغانستان، وتظل أميركا في هذه التحالفات العسكرية، هي القوة الضاربة.-2-من الواضح أن أوروبا، كانت تعارض عملية «حرية العراق»، التي قادتها أميركا عام 2003، حيث حسبت حساباتها، فوجدت أنها هي الخاسرة في الانضمام إلى هذا التحالف. وإذا كان هناك كعكة عراقية كبيرة يمكن التهامها، فسيكون الفم الأميركي الفاغر أول من يلتهمها، ويرمي بفتاتها للأوروبيين. كذلك، فإن الأوروبيين قد تلقنوا درساً بليغاً وقاسياً من حرب الخليج عام 1991. فرغم أن 13 دولة أوروبية اشتركت في هذه الحرب، فإنهم لم يعودوا بالغنائم الكافية، التي تعودوا أن يعودوا بها من حروبهم السابقة في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، كذلك، فإن الدول الأوروبية كانت تعلم تماماً، أنها سواء اشتركت في هذه الحرب أم لم تشترك، فسوف تضطر إلى إسقاط ديونها التي على العراق، وهذا ما حصل بالضبط. إذ اضطرت الدول التي اشتركت والتي لم تشترك، وعلى رأسها روسيا، أن تُسقط أكثر من 80% من ديونها على العراق. فكان عدم الاشتراك في الحرب في هذه الحالة، أكثر فائدة من الاشتراك فيها، وخسران الضحايا من الجنود. والآن تغيّر الوضع في العراق، بعد أن اقتلعت أميركا معظم أشواك العراق، بأيديها حتى أُدميت تماماً، وجاء الدور الأوروبي لكي يساهم في بناء، وإنماء، وإعمار العراق. فما هي حاجة العراق للأوروبيين؟-3-يحتاج العراق الأوروبيين في نواح مختلفة منها:1- يقول المحللان السياسيان الأميركيان دانيل سيروير وميجان شابالوسكي، الأول نائب رئيس عمليات السلام والاستقرار في «المعهد الأميركي للسلام»، والثاني مساعد باحث في المعهد نفسه، ويكتبان في جريدة «انترناشيونال هيرالد تريبيون»، في مقالهما «أوباما والتحول إلى التعددية الدولية»، أنه ليس غريباً أن تكون أوروبا مترددة في الاشتراك بتنمية العراق. فقد تعهدت أوروبا بنحو 2.5 بليون دولار لإعادة إعمار العراق، وهو مبلغ كبير، غير أنه يمثل نسبة أصغر بكثير من إجمالي المبلغ، الذي تتعهد به في كثير من العمليات الدولية الأخرى، وأغلب الأموال يتم تقديمها عن طريق الأمم المتحدة والبنك الدولي، بطريقة تقلل بشكل كبير من الظهور الأوروبي. إلا أن أوروبا تدرك تماماً أن مصلحتها السياسية والاقتصادية المستقبلية في الشرق الأوسط هي مساهمتها المباشرة في العراق، لاسيما أن العهد الأميركي الجديد بقيادة أوباما، يسعى- كما يقول الكاتبان- إلى التعددية الدولية؛ أي إلى العمل التحالفي، وليس الانفراد بمشاكل العالم، والانفراد بحلها كذلك. فقد حان الوقت في 2009 لأوروبا للنظر في القيام بجهد أكبر، مقابل دور أكبر في صنع القرار، وسوف يكون الرئيس الأميركي الجديد منفتحاً- بالطبع- على مقاربة أكثر تعددية في السياسة الخارجية. كما سيتم عرض شراكة أميركية-أوروبية في العراق في يناير المقبل. فكلٌ من الولايات المتحدة وأوروبا تريدان عراقاً موحداً ومستقراً، لا يأوي إرهابيين، أو يهدد جيرانه. 2- إن تاريخ العلاقات العراقية-الأوروبية الممتد طوال القرن العشرين، يتيح لأوروبا فرص استثمار وتنمية أكثر مما يتيح لأميركا، ورغم أن أميركا هي التي أخرجت العراق من الظلمات إلى النور الحالي، فإن أوروبا تظل هي المُرحب بها في العراق، دون الكثير من التحفظات، كما أن لأوروبا تاريخ علاقات واسعة وقديمة مع كل جيران العراق، مما سوف يُسهّل الوجود الاستثماري الأوروبي في العراق.3- يتيح بترول العراق ومياهه الغزيرة، فرص استثمار ضخمة لأوروبا في شتى المجالات، وفي السابق كانت أوروبا مترددة في الدخول إلى السوق العراقية بسبب وجود نظام بعثي، يدعو إلى الاشتراكية- ولو كذباً- ويتبنى سياسة تأميم المصالح الغربية، حيث مازالت تتردد أصداء تأميم «شركة نفط العراق» عام 1972، التي كانت مملوكة لبريطانيا وفرنسا وهولندا وأميركا، وتأميم «شركة بترول البصرة» عام 1973، التي كانت هولندا مساهمة فيها، وكذلك تصفية ما تبقى من الاستثمارات الأجنبية عام 1975. وهذه الدول وغيرها، يسيل لعابها الآن، لكي تعود باستثمارات جديدة يكفلها النظام العراقي الجديد، ما لم يتم انقلاب عسكري غداً في العراق، ويعيد البعث إلى الحكم، وتبدأ عاصفة التأميمات من جديد للاستثمارات الأوروبية.4- العراق الآن بحاجة ماسة إلى استثمارات أوروبية في مجالات التعليم، والصحة، والمواصلات، وكذلك النفط، والزراعة، وهذه كلها مجالات واسعة، وغنية، وواعدة. وأميركا وحدها، لا تستطيع أن تسد كل حاجة العراق من الاستثمارات الأجنبية، كما هي الحال في دول الخليج. 5- يشهد الجنود والمتعهدون الأميركيون حالياً نقصاً في الخبرة المناسبة، لتدريب الجيش العراقي، ورجال الأمن العام، ويمكن للاتحاد الأوروبي أن يتبنى وزارة الداخلية، ويتولى الجهد الأساسي في تدريب مسؤوليها، ويقول الكاتبان المذكوران أعلاه إنه يمكن لأوروبا المساعدة في تحقيق المصالحة السياسية الداخلية في العراق، بأن تسهم بمئات من الموظفين الإضافيين لمصلحة الأمم المتحدة، مما يزيد من انتشار أفرادها في المحافظات، ويعزز قدرتها على التعاطي مع الانتخابات المقبلة، إضافة إلى إدارة مخاطر الصراع العرقي والطائفي.* كاتب أردني
مقالات
الدور الأوروبي المطلوب في العراق
24-12-2008