Ad

مع اقتراب القوات الإسرائيلية الغازية من بيروت اتضح للجميع أن للاجتياح الإسرائيلي بعداً سياسياً يهدف إلى إيصال بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية، إضافة إلى البُعد العسكري الرامي إلى استئصال التنظيمات الفلسطينية من جنوب لبنان وعاصمته. كنت تحدثت مع الرئيس الياس سركيس مراراً في موضوع ترشح قائد القوات اللبنانية وأبلغته تحفظي في شأن انتخاب هذا الأخير، لكنني آثرت أن أحيّد نفسي وأبلغت رئيس الجمهورية أنني لن أتعامل مع هذا الموضوع لا سلباً ولا إيجاباً. وقد تولى مدير المخابرات في الجيش جوني عبدو مهمة التنسيق بين الرئيس سركيس وبشير الجميل، وكنت لاحظت، خصوصاً في الأشهر الأخيرة من العهد، أنه كان يزور الرئيس يومياً تقريباً في القصر الجمهوري بعد رحيل الجميع ويختلي به لساعات. وفي اعتقادي آنذاك أن جوني عبدو لعب دوراً مهماً في إقناع رئيس الجمهورية بوجوب تبني ترشح بشير الجميل ومساعدته على الفوز بالمنصب الأول.

مفهوم الرئيس القوي

مساء الثاني من تموز (يوليو) 1982، عقدت خلوة طويلة مع رئيس الجمهورية تناولنا خلالها موضوع الاستحقاق الرئاسي والخيارات المفتوحة أمامنا. وقد أعربت خلالها عن شكي في إمكانية إجراء انتخابات رئاسية في ظل احتلال الجيش الإسرائيلي لمعظم أرجاء العاصمة. فأجابني الرئيس سركيس: «لا أريد أن أسمع شيئاً عن تمديد ولايتي، حتى لو اقتنعت بأنني سأجد حلاً للأزمة اللبنانية في الرابع والعشرين من أيلول (سبتمبر)». ثم تطرقنا إلى مسألة ترشح بشير الجميل لرئاسة الجمهورية، وقال لي الرئيس سركيس بوضوح: «يجب أن يصبح بشير رئيساً للجمهورية، ربما لديه فرصة لحل الأزمة اللبنانية». لمست يومذاك مدى التغيير الذي حصل في مقاربة الرئيس سركيس لموضوع الانتخابات الرئاسية مقارنة مع مزاجه المعهود واعتداله المعروف. فنحن من مدرسة سياسية واحدة بشرت بالاعتدال والاتزان خصوصاً على مستوى رأس الهرم في الجمهورية.

تباحثنا طويلاً في تلك الليلة. لم أجار الرئيس سركيس في موقفه، وإن كنت قد تفهمته إلى حد ما. فأنا القائل، للشيخ بيار الجميل وفريقه، إبان الانتخابات الرئاسية سنة 1964 بأنه يستحيل على كتائبي أن يُنتخب رئيساً للجمهورية لأن لبنان عندئذ يبطل أن يكون لبنان الذي كنا نعرفه. ربما لبناننا هذا كان قد تغيّر في صيف عام 1982، والرئيس المعتدل الذي يوازن بين المجموعات المكونة للبنان لم يعد قادراً على حكم البلاد وإنقاذها من الأزمة بل أضحى دوره أن يدير الأزمة ويسعى إلى عدم السقوط في المجهول والانزلاق إلى الانهيار الشامل والتفتت. كان قبول الرئيس سركيس بفكرة وصول بشير إلى قصر بعبدا نوعاً من الإقرار غير المباشر منه بأن الرئيس المعتدل لن يكون بإمكانه أن ينجح بمهمة إنقاذ البلد في تلك الظروف، وبأن هذا النموذج من الرؤساء لم يعد يصلح، خصوصاً بعد منعطف الاجتياح الإسرائيلي الذي أدخل لبنان في نفق مجهول.

وما زاد ربما من اقتناع رئيس الجمهورية بضرورة المساهمة في انتخاب بشير الجميل هو الاجتياح الإسرائيلي الذي وصل إلى مشارف العاصمة بيروت. لم يكن بإمكانه التصور بأن رئيساً معتدلاً وسطياً سيكون قادراً على حمل الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من لبنان، ولم نكن من المتحمسين لحروب الاستنزاف التي سوف تدمر العاصمة ولبنان، إذا كان بإمكان رئيس قوي مثل بشير الجميل توفير أجواء أمن واستقرار تنزع من إسرائيل حجة احتلال لبنان لتأمين حماية حدودها الشمالية. كان الرئيس سركيس يتوقع بالطبع أن يوقع بشير الجميل اتفاقية سلام مع إسرائيل، وكان هذا الأخير أخذ علماً بمعارضة الرئيس سركيس لهذا التوجه، وخوفه من تداعياته على التركيبة اللبنانية، ولكن رئيس الجمهورية مع تحذيره لبشير الجميل، ارتأى أنه الأنسب للرئاسة في تلك اللحظة التاريخية.

اكتمال النصاب

أثرت مع معاونيّ في وزارة الخارجية في ذلك الحين مسألة وصول بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية. وقلت لهم إن بشير سينتخب رئيساً، على رغم محاولات العرقلة التي يقوم بها شقيقه أمين في أكثر من اتجاه، وسيعّين حكومة فاعلة قادرة على إدارة شؤون البلاد، ولكني «لن أقبل بأن أكون وزيراً للخارجية فيها لأن السياسة الخارجية ستكون متأثرة بإسرائيل، ولأن الحكم سيكون أقرب إلى الدكتاتورية».

تناول المبعوث الرئاسي الأميركي فيليب حبيب طعام العشاء إلى مائدتي. وكنت حرصت على ألا أثير موضوع الاستحقاق الرئاسي معه طوال الفترة التي سبقت الانتخابات، وهو بدوره لم يفاتحني بالموضوع ربما لأنه كان يعرف رأيي. من جهته، شرح فيليب حبيب وجهة النظر الأميركية التي اعتبرت في ذلك الحين أن انتخاب بشير الجميل أمر ضروري لا يمكن الاستعاضة عنه من أجل فرض الاستقرار والأمن في لبنان، وأنه لا يوجد شخص آخر في تلك الظروف يتمتع بالمقدرة والنفوذ اللازمين للقيام بالدور المطلوب.

اشتد التشويق في الأيام الثلاثة السابقة للثالث والعشرين من آب (أغسطس) حيال إمكانية تأمين النصاب في جلسة مجلس النواب والمحدد باثنين وستين نائباً بنتيجة وفاة عدد من أعضاء المجلس النيابي المنتخب سنة 1972 والمستمر بحكم الأحداث وعدم قدرة الحكومات المتعاقبة على تنظيم انتخابات تشريعية.

صباح الثالث والعشرين من آب (أغسطس) 1982، وصلت إلى وزارة الخارجية التي كانت شاغرة تقريباً يومذاك من الموظفين. كان اللبنانيون عموماً أمام شاشات التلفزيون يتساءلون عما إذا كان نصاب مجلس الأمة سيكتمل. قرابة الظهر، توجهت إلى القصر الجمهوري الذي يقع على بعد نحو كيلومتر واحد من المدرسة الحربية في الفياضية حيث جرت عملية الانتخاب. اكتمل النصاب بحضور اثنين وستين نائباً بالتمام وجرت عملية الانتخاب، وفاز بشير في الدورة الثانية. شعرت بأن الرئيس الياس سركيس قد ارتاح للنتيجة، أما أنا فقد كنت أتمنى لو كنت مقتنعاً كي أشاطره ارتياحه ولا أشعر بالحزن. بعد إعلان فوز الجميّل، قررت الانسحاب والعودة إلى المنزل لأن القصر الجمهوري سيشهد الزيارة البروتوكولية للرئيس المنتخب، وسيصحبها هرج ومرج وعراضات، لا أستسيغ مشاهدتها بطبيعتي.

الغياب الثلاثي

انشغلنا في الأيام التالية لانتخاب بشير الجميل في مراقبة رحيل المقاتلين الفلسطينيين وانسحاب القوات السورية من بيروت، وفي متابعة أخبار الوفد اللبناني إلى اجتماع وزراء الخارجية العرب إلى المغرب، بينما كانت البلاد منقسمة بين مناطق محتفلة ومتفائلة ومناطق تشعر بالانهزام والتشاؤم.

على المستوى الشخصي، بدأت أفكر في الطريقة الواجب اتباعها لاستنهاض مكتبي للمحاماة بعد إهمالي له مدة ست سنوات. وفي مطلع أيلول (سبتمبر) 1982، باتت بيروت خالية من المقاتلين الفلسطينيين ومن القوات السورية. لذا قررت القوات المتعددة الجنسيات الانسحاب من العاصمة اللبنانية بعد تنفيذ مهمتها بنجاح ملحوظ، على رغم أن الاتفاق بيننا وبينهم، وفق الروزنامة المرفقة بالدعوة الرسمية التي وجهتها لهم، نص على أن ينسحبوا من لبنان بين الحادي والعشرين والسادس والعشرين من أيلول (سبتمبر). حاولت مع رئيس الجمهورية إقناع الأميركيين بتأخير انسحابهم إلى الموعد المحدد أصلاً لكننا لم نوفق.

حتى الثالث من أيلول (سبتمبر)، كان الرئيسان سركيس والوزان يعتزمان السفر إلى المغرب للمشاركة في اجتماع القمة العربية في فاس خصوصاً بعد تلقيهما تمنياً ملحاً من الملك الحسن الثاني بعدم التغيب، أقنعتهما بالعدول عن فكرة المشاركة في قمة فاس وتكليف الوزير جوزيف أبوخاطر ترؤس الوفد اللبناني، على أن يصحبه رئيس مركز الأبحاث والتوثيق في الخارجية جوزيف عقل ومستشاري سمير مبارك. كما أقنعتهما أن تغيبنا نحن الثلاثة عن القمة يعني بكل وضوح أننا متمسكون بورقة العمل اللبنانية وأننا لسنا في وارد التفاوض بشأنها أياً تكن اعتبارات الأطراف ومواقفها.

تابعت عن كثب أعمال قمة فاس واللقاءات الجانبية التي عقدها أعضاء الوفد اللبناني مع نظرائهم العرب خصوصا مع السوريين.

وفي الثامن من أيلول (سبتمبر)، أبرق الوزير أبوخاطر يعلمني بملخص ما أنجزه أعضاء الوفد وبخاصة نجاحهم بجعل ورقة العمل اللبنانية الوحيدة للمداولات وعدم الأخذ بالتالي بورقتي العمل السورية والفلسطينية. وذكر أنه أجرى مباحثات مع وزير الخارجية السورية عبدالحليم خدام الذي أبلغه أن الرئيس السوري حافظ الأسد قرر سحب قوات الردع وأن خدام اقترح علينا تعديلاً لفقرة من ورقتنا.

انتهى مؤتمر القمة العربية في فاس إلى تبني التعديل السوري لورقة العمل اللبنانية، فتقدم رئيس الوفد اللبناني الوزير أبوخاطر بتحفظ الدولة اللبنانية. وقد أخبرني أمين السر سمير مبارك لاحقاً أن اتجاه الجلسة الختامية كان بعدم صدور قرار متعلق بالمسألة اللبنانية، فتحفظ الوفد اللبناني وانسحب. عندها رفع الملك المغربي الحسن الثاني الجلسة، وقال لأعضاء الوفد اللبناني: «لو كنت مكانكم، لكنت تصرفت مثلكم، لكنت تحالفت مع الشيطان». ثم عُقدت جلسة سميت «بالفرصة الأخيرة» وحضرها ملوك السعودية والأردن والمغرب والرئيسان السوداني جعفر النميري والسوري حافظ الأسد ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، والوزير جوزيف أبوخاطر والسفير عادل إسماعيل عن لبنان. تمسك في هذا الاجتماع كل من الأطراف بموقفه فاستاء الملك المغربي وترك الجلسة قائلاً: «لا يريدون الاستماع إلى شيء». ونقل لي مبارك انطباعه بأن قمة فاس أظهرت أن العرب يتوجسون من لبنان ومن بشير الجميل، فعلقت على ملاحظته: «سيترحمون على أيام الياس سركيس، ولكن بعد فوات الأوان».

اجتماع نهاريا السري

في هذه الأثناء، التقيت مدير المخابرات جوني عبدو الذي قال لي إن الرئيس المنتخب سأله: «إذا عرضنا على فؤاد بطرس أن يتولى وزارة الخارجية في الحكومة الأولى من العهد فهل سيقبل برأيك؟» لفتتني الطريقة غير المباشرة للعرض، فأجبته: «قراري هو العودة إلى مكتب المحاماة وأخذ فترة استراحة من السياسة». غير أن بشير الجميل لم يفاتحني بالأمر عندما التقيته، بل أخبرني أنه خلال اجتماعه السري مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغين في نهاريا في مطلع أيلول (سبتمبر) 1982، قال للمسؤولين الإسرائيليين عندما تكلموا معه عن ضرورة البدء بمفاوضات من أجل توقيع اتفاق سلام بين لبنان وإسرائيل، إن وزير الخارجية فؤاد بطرس يرفض الدخول في مفاوضات مع إسرائيل. وأضاف: «أعتذر منك لأني ألصقت بك مسؤولية عدم التمكن من بدء المفاوضات»، فأجبته بأن لا مشكلة عندي في ذلك. ثم سألني عن سمير مبارك الذي عيناه سفيراً لدى السويد فقلت له: «لقد كان خير مساعد لي طوال خمس سنوات في وزارة الخارجية، وهو دبلوماسي ممتاز على كل الصعد، وهو ابن موسى مبارك». فأجابني: «لا تشغل بالك، حول هذه النقطة أبداً».

بعد ظهر الرابع عشر من أيلول (سبتمبر)، دوى الانفجار الذي أودى بحياة الرئيس المنتخب الشاب. كنت وقتئذ مجتمعاً بالرئيس سركيس في القصر الجمهوري، وبعد لحظات على سماعنا صوت الانفجار، جاء من يخبرنا أنه استهدف الرئيس المنتخب، وأن لا معلومات حول مصيره. أحبطنا هذا الخبر المشؤوم، وشعرنا بأننا دخلنا نفقاً مظلماً.

شاركت في اليوم التالي في المأتم الرسمي والشعبي الحاشد للرئيس المنتخب في مسقط رأسه بكفيا، حيث زحفت الشخصيات السياسية اللبنانية والدولية لتأدية واجب التعزية، ومنها من ناصبه العداء طوال فترة الحرب ومن قاطع جلسة انتخابه. وألقى النائب أمين الجميل كلمة العائلة وكانت أشبه بخطاب ترشح إلى رئاسة الجمهورية بحيث شعر الحاضرون بأنه يطالب بحق وراثة أخيه. لفّ الحزن والغضب المنطقة الشرقية بينما كانت المنطقة الغربية مغتبطة بعض الشيء من عملية الاغتيال، بعدما كانت الشرقية قبل وقوعه محتفلة والغربية شبه متشحة بالسواد. إنها المفارقة الغريبة العجيبة في البلد الصغير الذي قلّما اجتمع أبناؤه على أمر واحد.

عدم الارتياح

صباح ذلك اليوم، وبينما البلاد تحت صدمة اغتيال الرئيس بشير الجميل، فاجأنا الإسرائيليون بدخول بيروت الغربية بذريعة الحؤول دون ردود الفعل الانتقامية بين الفئات الطائفية، مخالفين بذلك مخطط فيليب حبيب الذي أخلى بموجبه العاصمة اللبنانية من المسلحين الفلسطينيين. فاتصلت بالسفير غسان تويني، وأبلغته نبأ تقدم الإسرائيليين داخل أحياء بيروت الغربية طالباً إليه التحرك في أسرع وقت لدى الأمين العام للأمم المتحدة خافيير بيريس دوكويلار ومجلس الأمن لوقف التوغل الإسرائيلي. فرد عليّ بعد ساعات قليلة ببرقية نقل لي فيها استياء الأمين العام للأمم المتحدة الذي وصف «هذا الانتشار بأقسى العبارات وقال عن الذريعة الإسرائيلية إنها مستغربة ومستهجنة (...) وكان شديد الغضب».

كان همي من خلال حث بعثتنا على التنسيق مع البعثة الأميركية إقناعها بالتصويت لمصلحة قرار ضد إسرائيل، وعدم استعمال حقها بالنقض. أما همي الثاني في ذلك اليوم، أي في السادس عشر من أيلول (سبتمبر)، فكان متابعة المداولات الجارية من أجل مواجهة الاستحقاق الرئاسي الداهم من جراء اغتيال الرئيس المنتخب. وكانت الحلول المطروحة ثلاثة: انتخاب رئيس جديد للجمهورية، إقناع الرئيس سركيس بالتمديد لسنة أو سنتين، والثالث تشكيل حكومة انتقالية. في حين أن «الجبهة اللبنانية» التي كانت تعتبر نفسها منتصرة في المعادلة التي فرضها الاجتياح الإسرائيلي بدت مصرة على إيصال أحد أركانها إلى سدة الرئاسة الأولى. وقد أعلن المكتب السياسي لحزب الكتائب اللبنانية في اجتماع طارئ له، يومذاك ترشيح نائب المتن أمين الجميل لرئاسة الجمهورية بينما أشارت أوساط الرئيس كميل شمعون إلى أنه سيتقدم أيضاً بترشيحه لهذا المنصب.

من جهتي، لم أكن مرتاحاً إلى الترشيحين. فالرئيس كميل شمعون البالغ من العمر الاثنين والثمانين عاماً، لم يكن برأيي في ذلك الحين قادراً على حكم البلاد التي كانت تواجه الكثير من الاستحقاقات والتحديات، إضافة إلى كونه حزبياً وطرفاً في الحرب الدائرة، وسيعتبر وصوله تحدياً للمسلمين. بينما كان أمين الجميل بدوره حزبياً، وكنت غير متحمس لانتخابه، للأسباب نفسها التي حددت موقفي من ترشيح شقيقه بشير قبل نحو شهر. وفي السادس عشر من أيلول (سبتمبر) 1982، كان أيضاً يوم المحاولات الأخيرة لإقناع الرئيس إلياس سركيس بقبول تمديد ولايته سنة أو سنتين.

إجماع سوري لبناني إسرائيلي

في السابع عشر من أيلول (سبتمبر)، القرار 520 الذي شكل تتويجاً لكل جهودي وجهود معاونيّ طوال السنوات الست التي أمضيتها في وزارة الخارجية، وذروة ما يمكن التوصل إليه في ظل الحرب الباردة التي شلّت المنظمة الدولية وأطالت عمر الصراعات في النقاط الساخنة من العالم.

ابتداء من صباح الثامن عشر من أيلول (سبتمبر) بدأت تتضح ملامح مأساة مروعة. فقد أقدمت مجموعات مسلحة إسرائيلية ولبنانية من جيش لبنان الجنوبي والقوات اللبنانية خلال اليومين السابقين على اقتحام المخيمات الفلسطينية في صبرا وشاتيلا، وارتكاب مجازر بحق المدنيين الفلسطينيين. اهتز لبنان والعالم لهذا الخبر المشؤوم فاجتمع مجلس الأمن مجدداً وأصدر القرار 521 الذي أدان المجزرة وأكد قراراته السابقة الداعية إلى احترام حقوق السكان المدنيين، وأجاز للأمين العام زيادة عدد المراقبين في بيروت وضواحيها، وطلب إليه الدخول في مشاورات مع الحكومة اللبنانية حول الخطوات الممكن اتخاذها لتأمين الحماية الكاملة للمدنيين بما في ذلك انتشار قوات دولية.

أما في لبنان فقد لفتني كثيراً تجاوز منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها المسلمين اللبنانيين لمسؤولية الكتائبيين والقواتيين في مجزرة صبرا وشاتيلا. وقد انعكس هذا التجاوز إيجاباً على عملية انتخاب أمين الجميل في الحادي والعشرين من أيلول (سبتمبر)، حين تحقق شبه إجماع لبناني وسوري وإسرائيلي وحتى فلسطيني عليه بحضور ثمانين نائباً الى جلسة الانتخاب ففاز من الدورة الأولى بسبعة وسبعين صوتاً مقابل ثلاث أوراق بيض. وعلى عكس جلسة انتخاب بشير، حضرت الحكومة، وأنا من ضمنها، جلسة الانتخاب التي نقل تلفزيون لبنان وقائعها مباشرة. ثم حضرت جلسة القسم الدستوري في المدرسة الحربية في الفياضية، في الثالث والعشرين من أيلول (سبتمبر)، وتميزت كلمة الرئيس أمين الجميل بالتأكيد على البعد العربي للبنان.

تحقيقات صبرا وشاتيلا

تقدم الرئيس شفيق الوزان باستقالة الحكومة غداة جلسة القسم، على ما تقتضي الأصول الدستورية، فكلفها الرئيس الجديد تصريف الأعمال إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة. لذلك واظبت على الحضور اليومي إلى مكتبي في وزارة الخارجية كالمعتاد لتسيير العمل الروتيني. أما احتكاكي الأول بأمين الجميل كرئيس للجمهورية فكان في اليوم الأول من عهده. يومها أمضيت ساعة ونصف ساعة وأنا أحاول إقناعه بأنه لا يجوز أن يصوت لبنان في الجمعية العمومية للأمم المتحدة ضد قرار تشكيل هيئة استقصاء دولية للتحقيق في مجازر صبرا وشاتيلا. وكان في البداية مصمماً على أن يصوت لبنان ضده، فقلت له: «بذلك، تحول أصابع الاتهام نحوك. إن الولايات المتحدة وإسرائيل لن تصوتا ضده». وبعدما فشلت في إقناعه، اقترحت عليه أن نستدعي السفير الأميركي روبرت ديلون فوافق.

حضر السفير الأميركي إلى القصر الجمهوري في غضون دقائق، واستمع إلى وجهة نظر كل منا من مسألة التصويت في الجمعية العمومية، فانحاز تلقائياً إلى رأيي وانضم إليّ في محاولة إقناع رئيس الجمهورية قائلاً له إن بلاده وإسرائيل قد لا تصوتان ضد القرار، وربما تكتفيان بالامتناع عن التصويت. بعد جهد جهيد اقتنع الرئيس أمين الجميل بوجهة نظري. وبينما نحن خارجان معا من القصر الجمهوري، قال لي روبرت ديلون: «أمين يحتاج إلى رجل خبرة يكون إلى جانبه، شخص مثلك أنت».

كلّف الرئيس الجميل، في الرابع من تشرين الأول (أكتوبر)، الرئيس شفيق الوزان تشكيل الحكومة الأولى من عهده. وفي صباح السابع من تشرين الأول (اكتوبر)، زرت الرئيس الياس سركيس في منزله في اليرزة لوداعه عشية سفره إلى الخارج. كانت الأوساط السياسية آنذاك تتداول باسمي كمرشح جدي لتولي الخارجية فتباحثت بالأمر معه ومع الوزان الذي حضر للغاية نفسها. أعدت على الرئيسين الصديقين الأسباب التي تدفعني إلى عدم قبول العودة إلى وزارة الخارجية. ثم التقيت فاروق أبي اللمع الذي كان اجتمع برئيس الجمهورية مساء اليوم السابق، فأخبرني أن الرئيس الجميل قال له: «لا يمكنني أن أقبل بفؤاد بطرس في وزارة الخارجية، لديه شخصية قوية. إذا حصلت إنجازات فسيقولون فؤاد بطرس حققها، أنا أريد أن يقولوا هذه إنجازات أمين الجميل. لقد قررت أن أجعل هذه الوزارة تحت إشرافي، أريد أن أقرر فيها وحدي، وفؤاد بطرس ليس الرجل الذي يناسبني. ولا أريد شارل حلو، وهو رئيس جمهورية سابق وهناك احتمال كبير أن تقع بيني وبينه اختلافات. إنني مزمع أن أعيّن شخصاً مغموراً وجديداً في السياسة، هو أستاذ في الجامعة الأميركية، ولن تكون له ولاءات إلى غير العهد، وسيلتزم بالخط الذي سأرسمه له».

يتبع