نحن لا نمارس التعذيب

نشر في 11-05-2009
آخر تحديث 11-05-2009 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت حين سُئِل في شهر سبتمبر 2006 عما إذا كان هناك أي نوع من الفساد أو الخروج عن المألوف في الطريقة التي يتعامل بها المحققون الأميركيون مع السجناء من ذوي «القيمة العالية» في خليج غوانتنامو وفي أماكن أخرى من العالم، أجاب الرئيس جورج دبليو بوش بجملته الشهيرة: «نحن لا نمارس التعذيب».

الحقيقة أن التعذيب لن تجد له تعريفاً واضحاً قاطعاً، ولكننا أدركنا منذ بعض الوقت أن الرئيس السابق كان مقتصداً في ذكر الحقيقة. فعلى أقل تقدير كان المحققون الأميركيون يخرقون اتفاقيات جنيف التي صدقت عليها الولايات المتحدة ضد «المعاملة القاسية، أو غير الإنسانية، أو المهينة».

إن تقييد أحد السجناء إلى لوح خشبي وغمره بالماء إلى حد الغرق مراراً وتكراراً، أو إرغام أحد السجناء- بعد تجريده من ملابسه تماماً وتغطيته ببرازه- على الوقوف لأيام وهو مكبل اليدين إلى السقف، إلى أن تنتفخ ساقاه حتى تبلغا ضعف حجمهما الطبيعي، قد لا يشكل تعذيباً في المذكرات التي يعدها المحامون التابعون للحكومة، غير أن هذه الممارسات قاسية وغير إنسانية ومهينة من دون أدنى شك.

كان أول مرسوم يصدره باراك أوباما بصفته رئيساً للولايات المتحدة يقضي بحظر التعذيب على الفور. والسؤال المطروح الآن يتعلق بكيفية التعامل مع الماضي، وتحديداً مع حقيقة أن أعلى المسؤولين الرسميين في الولايات المتحدة لم يتغاضوا عن هذه الأفعال فحسب، بل لقد أمروا بها؟

هل ينبغي محاكمة هؤلاء المسؤولين، بمن فيهم بوش، لخرقهم للقانون؟ وهل ينبغي نشر كافة تفاصيل ما حدث؟ وهل ينبغي تشكيل لجنة خاصة للتحقيق؟ أم أنه من الأفضل طبقاً لتعبير أوباما أن «نتطلع إلى المستقبل ولا ننظر إلى الماضي»؟

في الواقع، وكما أدرك أوباما بسرعة، فإن استجابته المفضلة أثبتت أنها مستحيلة التنفيذ، ذلك أن رفض النظر إلى الوراء من شأنه أن يثقل كاهل المستقبل بأعباء أعظم خطورة.

ذكر نائب الرئيس الأميركي السابق دِك تشيني في مناسبات عدة أنه غير نادم على ما يحب أن يطلق عليه أساليب «التحقيق المعززة»، مثل إغراق السجين المستجوَب تقريباً، وذلك لأن هذه الأساليب ساعدت في «الحفاظ على سلامة بلادنا» من الهجمات الإرهابية. وفي رأيه فإن الحظر الذي فرضه أوباما من شأنه أن يجعل الولايات المتحدة «ضعيفة». ونستطيع أن نستشف من كلامه باختصار أن الوازع الأخلاقي والقانوني والمعاهدات الدولية بشأن التعذيب كل ذلك ليس أكثر من حماقة وطيش. والمعنى الضمني هنا واضح: إذا تعرضت الولايات المتحدة لهجوم إرهابي جديد فسنعرف آنذاك من يستحق اللوم.

ومن ثَم فإن المخاطر المتصلة بمناقشة قضية التعذيب التي شدت انتباه الولايات المتحدة بالكامل ليس من الممكن أن تكون أعظم مما هي عليه الآن. فمن ناحية هناك تشيني وأنصاره الذين يرون التعذيب من منظور عملي: إذا ما لاح تهديد خطير للسلامة الجمعية فيتعين حتى على الأنظمة الديمقراطية الليبرالية ألا تتردد في تلويث أيديها بهذه الممارسات القذرة. لا أحد يحب ممارسة التعذيب، ولكن الأمن أكثر أهمية من الوازع الأخلاقي، ولابد ببساطة من تعديل القانون أو التحايل عليه.

وعلى الجانب الآخر هناك هؤلاء الذين يدينون التعذيب باعتباره سلوكاً بغيضاً على الصعيد الأخلاقي ولا يجوز السماح به تحت أي ظرف من الظروف. وهذا في الحقيقة نفس الموقف القانوني الذي تبناه أولئك الذين صدقوا على اتفاقيات جنيف: «ليس لأي ظروف استثنائية أياً كانت، سواء حالة حرب أو التهديد بالحرب، أو عدم استقرار سياسي داخلي، أو أي طوارئ عامة، أن تستخدم كذريعة لتبرير التعذيب».

ولكن هذه ليست الساحة الرئيسية التي تدور عليها المناقشة الخاصة بقضية التعذيب في الولايات المتحدة اليوم. فلأسباب مفهومة يحاول العديد من المدافعين عن قرار أوباما بحظر التعذيب الرد على وجهة نظر تشيني العملية بوجهة نظر عملية مضادة. وهم يزعمون، خلافاً لتشيني، أن التعذيب لا يشكل الوسيلة الأفضل للحفاظ على سلامتنا وأمننا. ذلك أن أي شخص قد يعترف بأي شيء تحت التعذيب، وهذا من شأنه أن يجعلنا نعتمد على معلومات غير جديرة بالثقة. كما يزعمون أن بعض أساليب التحقيق الأخرى الأكثر رقياً وحنكة ليست أكثر إنسانية (وقانونية) فحسب، بل إنها أكثر فعالية أيضاً.

ولتوضيح هذه النقطة لعامة الناس- الذين مازالوا في الولايات المتحدة يقتنعون بسهولة بوجهة نظر تشيني التي تزعم أن التعذيب مبرر إذا أسفر عن إنقاذ أرواح البشر- فقد دعا المعلقون والساسة الليبراليون إلى إنشاء لجنة خاصة للتحقيق بشكل كامل في سجل الإدارة السابقة. وفي اعتقادهم فإن هذا من شأنه أن يُـظهِر بوضوح أن التعذيب يشكل ممارسة هدامة. فهو لا يلحق الضرر الشديد بصورة البلد وحكم القانون فحسب، بل ومن المرجح أن يتسبب في التحريض على المزيد من الإرهاب وليس الحد منه.

لا شك أن المسوغات الفكرية والسياسية لهذه الحجة شديدة الوضوح. ولا يجوز للإدارة الحالية أن تحمل نفسها التبعات المترتبة على السير إلى الفخ الذي نصبه تشيني، والذي يحملها المسؤولية عن هجوم إرهابي محتمل آخر فقط لأنها حظرت التعذيب.

ولكن هل هذه هي البيئة اللائقة التي ينبغي لهذه المناقشة أن تدور فيها؟ إذا كان التعذيب خطأً مطلقاً تحت أي ظرف من الظروف، فإن حجة الفعالية تصبح هنا في غير محلها. ولا شك أن إدارة المناقشة وفقاً لهذه الشروط تهدد بإضعاف المبدأ الأخلاقي.

وهذا يتركنا أمام سؤال آخر: ما الذي يجعل من التعذيب سلوكاً يستحق الإدانة المطلقة في حين أن غير ذلك من أعمال الحرب، مثل القصف، الذي يلحق قدراً أعظم من الضرر بأرواح البشر، قد يكون مقبولاً باعتباره نتيجة حتمية للدفاع عن الوطن. من المؤكد أن القصف قد يشكل جريمة حرب إذا ما استخدم كعمل إرهابي ضد مدنيين عزل. ولكن العمليات العسكرية التي تسفر عن قتل أو جرح المدنيين نادراً ما تُـعَد من جرائم الحرب بشكل تلقائي، مادام المقصود منها لم يكن تعمد إذلال أو إلحاق الأذى أو الألم بفرد عاجز عن الدفاع عن نفسه- حتى ولو كان من الأعداء. أما التعذيب فهذا هو المقصود منه على وجه التحديد، وبالتالي فهو يختلف عن أعمال الحرب الأخرى.

أخيراً، أشار معلق أميركي بارز ينتمي إلى تيار اليمين إلى أن أي محاولة لإدانة ممارسي التعذيب وسادتهم في إدارة بوش «تشكل استهزاءً بكل الجهود التي يبذلها الأميركيون الحازمون الشجعان الذين يحرسوننا أثناء نومنا». ولكن بعيداً عن حقيقة واضحة مفادها أن تعذيب الناس ليس كمثل القتال وأنه لا يتطلب قدراً كبيراً من الشجاعة، فإن وجهة النظر هذه بعيدة كل البعد عن الصواب. فبعد أعوام من تعذيب الناس في واحدة من أكثر حروب أميركا اللاتينية الوحشية «قذارة»، قرر جنرالات البرازيل وقف التعذيب لأن استخدامه بشكل مؤسسي كان سبباً في تقويض انضباط القوات المسلحة وهدم معنوياتها. ولأنه كان يشكل استهزاءً برجال كان من المفترض فيهم الحزم والشجاعة، ولكنهم تحولوا بدلاً من ذلك إلى قُـطَّاع طرق وبلطجية.

* إيان بوروما | Ian Buruma ، كاتب بارز وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان «عاشق الصين».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top