يوم الأربعاء الماضي أطلقت مجلة «السياسة الخارجية» و«صندوق السلام» تقريرهما المشترك باسم «الدول الفاشلة» لعام 2008. ويتمتع هذا التقرير بأهمية كبيرة لدى دوائر صنع القرار السياسي في الولايات المتحدة. ويغطي تقرير هذا العام 141 دولة مقارنة بـ148 دولة العام الماضي، و75 دولة فقط عام 2005 عندما صدر لأول مرة.

Ad

وفي تقرير هذا العام ترتبت الدول العشر الأكثر فشلاً في تقدير الباحثين الذين أعدوا هذا التقرير كما يلي: الصومال- السودان- زيمبابوي- تشاد- العراق- الكونغو- أفغانستان- كوت ديفوار- باكستان- إفريقيا الوسطى. ثم تلتها عشرون دولة أخرى فاشلة أكثرها يقع في إفريقيا جنوب الصحراء، ولكن بعضها في آسيا: كوريا الشمالية (رقم 15)، وأوزبكستان (رقم 26)، وطاجيكستان( رقم 39).

ويلفت النظر في تقرير هذا العام أن أربع دول عربية وقعت بين الدول الثلاثين الفاشلة أو المعرضة للفشل، وهي السودان والعراق ولبنان واليمن. أما مصر فوقعت هذا العام في الترتيب الـ40، وهو ما يعكس تحسناً نسبياً بالمقارنة بموقعها الـ36 في تقرير العام الماضي.

أرقام خلابة ومفهوم مشوش

ولكن ما هي هوية أو طبيعة هذا التقرير؟

أول ما يجب أن يلفت نظرنا هو أن هذا التقرير واحد من عشرات التقارير السنوية التي صارت «فخر» صناعة البحوث الأميركية. وتستعرض هذه التقارير آخر إنجازات العلوم السياسية والاجتماعية من المنظور التجريبي، حيث يتم حشد قدر هائل من التقديرات والمقارنات الإحصائية ومقارنتها بين عشرات من الدول. وتتنافس المؤسسات العلمية والأكاديمية وشبه الأكاديمية الأميركية حول استعراض ترسانتها من الإحصاءات والمؤشرات. فكما أشرنا يغطي تقرير هذا العام أغلبية دول العالم. ومن المقرر أن يتمدد ليغطي دول العالم كلها في المستقبل القريب. ومَن يطلع على نسخة مطبوعة من هذا التقرير لا يكاد يرى اختلافا عن التقارير الاقتصادية التي تعدها المؤسسات الدولية مثلاً من ناحية الاستخدام الكثيف للأرقام المجدولة والمعروضة بصورة خلابة وغاية في الوضوح.

ومع ذلك، فآخر ما تتوقعه من هذا التقرير هو أمران: وضوح المفهوم نفسه ودلالاته من حيث المقاربة العلاجية، أي من حيث السياسات التي يجب اتباعها لوقف الفشل الذي تسجله دول كثيرة للغاية أو للسيطرة على عملية الانزلاق إلى دول فاشلة.

المفهوم نفسه يتسم بالغموض، وهو أمر ينضح في بنية التقرير وعروضه الرقمية والإحصائية. فلدينا تعريف مشوش وأرقام خلابة. المؤسستان تعرِّفان الدول الفاشلة بأنها تلك التي لا تستطيع أن تقوم بوظائف أساسية وتحديداً التعليم والأمن والحكم. ولأن أغلب هذه الدول تقع في ما درجنا على تسميته بالجنوب أو العالم الثالث، فالتقرير لا يفعل سوى ترجمة الواقع الاقتصادي إلى ظاهرة سياسية. وبمعنى معين فهو يعرِّف الماء بالماء.

وهذا هو ما يفعله أيضا تقرير آخر لا يكاد يختلف في شيء عن التقرير الحالي، ويصدر عن مؤسسة «بروكنغز» باسم «الدول الضعيفة». وصدر تقرير هذا العام في فبراير الماضي ليقدم النتائج نفسها بطريقة أخرى. فتقرير «بروكنغز» يتعامل مع أربعة مؤشرات فقط، هي النمو الاقتصادي، والمؤسسات السياسية وخصوصاً قوة البرلمان، والأمن، والرفاهية الاجتماعية. ويميز تقرير «بروكنغز» بين دول فاشلة ودول ضعيفة ودول ذات وضع مقلق. ولأن المشكلة في الجوهر واحدة، فإن التقريرين لا يختلفان كثيراً، ولا يكادان يتميزان عن الترتيب الذي تأخذ به المؤسسات الاقتصادية الدولية، مرة ثانية الدول الفقيرة هي دول ضعيفة أو فاشلة.

ولهذا السبب، فإن الاختلافات في مواقع الدول بين عام وآخر هامشية للغاية. ويقول التقرير هذا العام مثلاً إن بعض الدول حسنت موقعها وبعضها الآخر أساء إلى موقعه، ولكننا نكتشف أن التدهور والتحسن يقاس بدرجات ضئيلة. فمع المقارنة بالعام الماضي تحسّن وضع ليبريا بـ6 درجات، وإندونيسيا بـ4.8 درجات، والكونغو بـ4.6 درجات، والبوسنة بـ4 درجات، بينما ساء وضع لبنان بـ11.9 درجة، والصومال بـ5 درجات وغينيا الاستوائية بـ4.2 درجات... إلخ. ولكن تبقى هذه الدول بين صدارة الفئة الأكثر فشلاً من دول العالم.

مقاربة محافظة قد تخدم الاستعمار

ومن الناحية العملية، فتقرير مجلة «السياسة الخارجية» ومؤسسة صندوق السلام يستخدم 12 مؤشراً لتحديد مواقع الدول المختلفة في ترتيب الفشل، ويقدم تقديراته الكمية لكل من هذه المؤشرات. وتكفينا نظرة واحدة لندرك أنه لا يكاد يكون ثمة ما يربط بين هذه المؤشرات من وجهة نظر «كفاءة الدولة». ولذلك يمكن منازعة هذا التقرير بشدة والنظر إلى نتائجه كأنها أقرب الى التجريدات الرقمية منها إلى المعرفة الدقيقة بالسياق التاريخي لواقع الدولة والمجتمع وتطورهما.

وعلى سبيل المثال، يستحيل القبول بأن موقع مصر يجعلها أكثر فشلاً من لاوس وغينيا الاستوائية وموريتانيا وتوغو وحتى من كمبوديا التي شهدت مقتل ثلث سكانها على يد نظام الخمير الحمر في النصف الثاني من السبعينيات، كما شهدت حروب تدخل أميركية وفيتنامية وحروباً أهلية ومجاعات متكررة ومآسي إنسانية وسياسية لا نظير لها في التاريخ! ويعود هذا الخطأ الذي لا يغتفر الى أن كُتاب التقرير قاموا بتأليف رقم اجمالي مركب من الأثقال التي منحوها لكل مؤشر من المؤشرات الـ12 التي اختاروها وأكثرها لا يعد مقياساً للفشل السياسي أو لفشل الدولة وجهازها إطلاقا. وعلى سبيل المثال ساهم في هذا الوضع المتقدم لمصر في مقياس الفشل ما يطلق عليه التقرير بالضغوط السكانية ومصر بالطبع متقدمة في هذا المؤشر. ولكن هناك تقديرات للشؤون السياسية لا يمكن القبول بها. فمثلا صنف جهاز الأمن في مصر في مرتبة متقدمة من الفشل، وهو أمر لا يمكن قبوله بالمقارنة بعشرات من الدول المعروفة بوضعها الشديد البؤس في هذا المجال، ولذلك يجب أن نسائل دائما التعريف المشوش في هذا التقرير. فمثلا سوف تصنف ألمانيا النازية باعتبارها واحدة من أكثر الدول نجاحاً في العالم لأنها ستقع في مرتبة جيدة جداً من مؤشرات مثل الاقتصاد وجهاز الأمن وتوافر الخدمات العامة والمساواة النسبية في توزيع الدخل والضغوط السكانية. ولكن هل يمكن القبول بهذه النتيجة؟

يمثل القبول بهذه النتيجة كارثة أخلاقية وعلمية في الوقت ذاته، وهو ما يجبرنا على رفضها ومساءلة التعريف الأساسي للفشل. ويضاعف من الحاجة إلى المساءلة المفاهيمية أن التقرير يساء استخدامه سياسياً حتى أن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن يستخدم بعض فقراته بالحرف تقريباً لتبرير سياساته العدوانية والمحافظة تجاه قضايا العالم الثالث عموماً. بل إن المفهوم نفسه نشأ في نهاية السبعينيات وانتشر في بداية التسعينيات ليبرر ويخدم أغراضاً استعمارية بالانطلاق من القول إن ثمة مجتمعات لا تستطيع أن تحكم نفسها بنفسها. وأتصور أنه لا يمكن انقاذ مفهوم الدول الفاشلة إلا بالتركيز على مؤشرات سياسية ونسبية وتاريخية للفشل. فالدولة نفسها، بما في ذلك الدول الغنية المتقدمة، يمكن أن تنجح في مرحلة وتفشل في مرحلة أخرى.

ولكي يكون التعريف نسبياً يجب أن يتشكل في علاقة. الدولة الفاشلة هي تلك التي تميل إلى استخدام تدابير استثنائية للوصول إلى الأداء نفسه في مؤشرات الاقتصاد (النمو مثلاً)، والسياسة (الاستقرار السياسي مثلاً)، والمجتمع (خفض معدلات الجريمة مثلا). وبهذا المعنى فألمانيا النازية دولة فاشلة واللجوء إلى العنف الداخلي والخارجي للحصول على الاستقرار مثلا تعبير نموذجي عن الفشل وليس النجاح. ويعني ذلك أيضا أن لجوء الدولة الأميركية في ظل بوش الابن لتشريعات وأوضاع استثنائية مثل قانون «الوطني» وقانون الإرهاب ومعسكر غوانتانامو والحرب في العراق وأفغانستان يعد تعبيراً فجاً عن الفشل.

* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية