لا تعلموا أبناءكم على عاداتكم
يرى كثير من علماء الاجتماع والسياسة أن التنازع الفكري والاجتماعي أمر ضروري لحركة المجتمعات المدنية الحديثة وتطورها. فتتميز هذه المجتمعات بالتنازع والتصارع السلميين، لاسيما بين جبهتين متضادتين من خلال الأدوات الديمقراطية. ويصف علي الوردي في كتابه «مهزلة العقل البشري» هذا التنازع بين المحافظين والمجددين «بالقدمين اللتين يمشي بهما المجتمع»، بعكس المجتمعات البدائية، الخالية من التنازع المدني (إذ قد يكون هناك تنازع قبلي أو شخصي)، فهي تبقى في ركود وجمود، والتي شبهها كاتبنا بالإنسان «الذي يربط إحدى قدميه إلى الأخرى فلا يقدر على السير»، واصفاً هذه الحركة بأنها «قدم تثبت المجتمع وأخرى تدفعه... والسير لا يتم إلا إذا تفاعلت فيه قوى السكون والحركة معاً». فالمحافظون في تلك المجتمعات يصرون على الإبقاء على العادات والتقاليد التي وجدوا آباءهم وأجدادهم عليها، وهم بذلك يسعون إلى المحافظة على الوضع الراهن، أما المجددون فإنهم يريدون الدفع بالمجتمع إلى الأمام. لا يستطيع أحد أن يدّعي طوبائية المجتمع المدني أو أي مجتمع آخر، فمثلما هناك محاسن هناك أيضا مساوئ، وذلك لأن المتناقضات هي سُنة الحياة، ولكن لن يكون هناك تطور من دون تجديد، فهما صنوان لا يفترقان.يؤمن المجددون بأن التغيير هو ديدن الحياة وأن التجديد هو طبيعة اجتماعية لا مناص منها. ويصور المحافظون بخطابهم الماضوي والانعزالي أنهم قادرون على التمسك بالعادات القديمة والتطور في الوقت نفسه. وهم بذلك يغفلون عن حقيقة جلية، وهي أن الإبداع هو المفصل الأساسي الذي يفصل المجتمع البدائي عن المجتمع المدني. فالفكر الماضوي مغلول ومقيد بماض يختلف كلياً عن الحاضر الذي يعتبرونه تفسخاً للهوية وانحلالاً للأخلاق وتحطيماً للعادات والتقاليد. فكيف له أن يبدع وفكره محصور في قالب الممنوع والخطوط الحمراء، وعقله خاضع ومستسلم لا يستطيع أن يخرج أو يحيد عن الإطار الضيق الذي شكل له. باختصار، المحافظون مقلدون والإبداع ليس مهنتهم.
تتجلى هذه الحقيقة حين احتج فقهاء نجد على الملك عبدالعزيز آل سعود عندما أدخل «المظاهر السلبية الدخيلة» في المدارس مثل برامج الرسم وتعليم اللغة الإنكليزية وتعليم الجغرافيا كونها تقر بدوران الأرض وكرويتها، وهي بذلك، في نظرهم، تعلم الكفر والزندقة، بالإضافة إلى رفضهم للمحطات اللاسلكية التي تستخدم الشياطين! ومثال آخر على خوف المحافظين من التجديد، ما حدث، عندما دخلت المدنية العراق، من تحريم لقراءة الجرائد والزي الحديث وقص الشعر والقول إن الجراثيم الحية هي سبب الأمراض.ويلاحظ المراقب للساحة السياسية في الكويت أن ما يحدث من تنازع في الآونة الأخيرة، ليس بين المحافظين والمجددين، بل بين تيار «متشدد» يريد الرجوع بنا إلى الخلف وليس مجرد الثبات على الوضع القائم، وتيار مجدد «ليبرالي» يريد التحرك بالمجتمع إلى الأمام. لذا أصبحت مشيتنا مشوهة لا نعلم إلى أين نحن سائرون... إلى الأمام أم إلى الخلف؟ والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا لو قام هذا التيار المتشدد وبخطوات حثيثة، كما هو حاصل الآن، بتدمير ركائز الدولة المدنية وتفريغ الدستور من محتواه كله ليستبدلوه بقوانين تفرض مجتمعاً، لا يحكمه سوى المتشددون، وليس له سوى قدم واحدة يحاول الرجوع بها إلى الخلف. لن يتخلص هذا التيار من هذا المأزق إلا إذا تبنى مسلكاً جديدا يحاول من خلاله مواكبة تحديات العصر، أسوة بالمجددين القدامى مثل الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وغيرهم. فقد سعى هؤلاء المجددون إلى «عقلنة» الفكر الديني من خلال الدعوة للاختلاف انطلاقاً من إيمانهم بأن في الاختلاف رحمة. ولن يكون هناك نهضة أو تنمية أو تطور من دون هذا التيار المجدد غير المقيد بعادات وتقاليد الآباء والأجداد، ليبدع بفكره وفنه وأدبه وعلمه، وبالتالي يقفز إلى الأمام ويتجاوز الحاضر إلى المستقبل. أما آن الأوان لتغيير أسلوب تفكيرنا؟ فليبدأ المجددون بأولادهم انطلاقاً من المقولة الحكيمة لعلي بن أبي طالب «لا تعلموا أبناءكم على عاداتكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم».