في هذا اليوم (الثاني والعشرين من مايو 2009) تحل الذكرى الثانية بعد المئة لميلاد الرسام البلجيكي الشهير (هيرجيه)، أحد أهم رواد فن القصص المصورة في العالم، ومبتكر شخصية الصحافي الشاب (تان تان) الذي طبقت شهرته الآفاق، من خلال مغامراته التي انتشرت بمختلف اللغات الحية، وأقحمت معها رسامها في دائرة الأضواء طيلة حياته، على الرغم من تواضعه الجم وكراهيته للإطراء المفرط وازدرائه لبريق الشهرة.

Ad

و(هيرجيه) هو اسم فني نحته الرسام (جورج ريمي Georges) من الحرفين الأولين لاسمه الثاني والأول، كما ينطقان بالفرنسية: (هير R) و(جيه G) وظل يوقع به رسومه منذ عامه الثاني والعشرين حتى وفاته باللوكيميا في مارس 1983 عن ستة وسبعين عاما.

ولأن أحدا لم يستطع أبدا أن يواصل تأليف قصص (تان تان) ورسمها بذات الأسلوب الذي كان يقدمه هيرجيه فقد توقف عددها عند حدود الثلاث والعشرين مغامرة التي أنجزها الرسام.

ومع ذلك فإن العجب لا ينتهي من أن هذه المغامرة بعددها المحدود، ظلت حية ومتجددة وتجد قراءها في كل زمان، مثلما تجد، على الدوام، اهتماما متواصلا من النقاد الجادين.

فبعد مرور ستة وعشرين عاما على وفاة هيرجيه، لاتزال قصص (تان تان) تستقطب اهتمام الناس برغم اختلاف طبائع وأمزجة الأجيال، وتطبع كل سنة بلغت جديدة عبر العالم، حتى بلغ ما بيع منها، منذ ظهورها حتى اليوم، أكثر من مئتي مليون نسخة في أكثر من ستين لغة!

وعلى الرغم من أن فن القصص المصورة (الكوميك) هو ابتكار أميركي خالص، منذ أواخر القرن التاسع عشر، فإن (هيرجيه) برسمه مغامرات (تان تان) عام 1929 قد استطاع أن يكون رائدا أصيلا لهذا الفن، بعدما نقله من مجال الموضوعات الآنية الخفيفة أو التهريج الفارغ، إلى ميدان الحبكة الروائية المدروسة، كما طبعه بطريقته المميزة التي تضع الشخصيات في منطقة وسط بين (الكارتوني) و(الواقعي).

وإذا كان الفرنسيون قد ملكوا زمام هذا الفن لاحقا، فإن ريادة (هيرجيه) كانت المحرك الفعال الذي بسط أثره على كبار الفنانين الفرنسيين في هذا المجال من أمثال (أودرزو) رسام معامرات أستريكس، أو (موريس) رسام مغامرات لاكي لوك، وغيرهما من المميزين، برغم اختلاف الأساليب والموضوعات.

وأكثر ما يثير الدهشة هو أن قراءة مغامرات (تان تان) لم تقتصر، يوما، على الأطفال، بل تعدتهم إلى البالغين، وحتى الكهول والشيوخ.

وفي هذا الاتجاه، يذكر (مايكل فار) في مقالة له نشرت في مجلة (الكتب) الفصلية التي تصدرها مكتبة (ووترستون) أنّ محرر فرنسا للرئيس الأسبق (شارل ديغول) كان من قراء تلك المغامرات، وأنه قد صرح ذات يوم بأن (تان تان) هو منافسه العالمي الوحيد! وكفى بتلك الشهادة الظريفة أن تنهض كدلالة على عمق الأثر الذي تركته تلك المغامرات في نفوس القراء من مختلف الأجيال في جميع دول العالم.

ولعل السر، وراء عمق هذا الأثر وسعته، يكمن في أن (هيرجيه) لم يكن مجرد رسام قصص فقط، بل كان، على نحو ما، روائيا ممتازا، وباحثا جادا ومدققا.

وما يدلنا على الأثر المهم لبحوثه الجادة في إعلاء أعماله وجعلها خالدة هو أن قصصه الأولى، خاصة (تان تان في بلاد السوفييت) و(تان تان في الكونغو) قد كانت بدائية إلى حد ما، إذ لم تكن سوى تجميع للقصاصات الأسبوعية التي كان ينشرها في ملحق الأطفال لجريدة (فانتييم) البلجيكية، وكان يغلب عليها طابع النكت التي لا رابط بينها سوى شخصية (تان تان) الذي شاء الرسام أن يجعله محررا صحافيا يزور البلدان البعيدة ليزود الجريدة بتقارير عنها.

ونتيجة لتلك الخفة التي كان الرسام يتعامل بها مع مواضيعه، وعدم دقة معرفته بشؤون تلك البلدان أو بطبائع أهلها، فقد تلقى نصيحة ثمينة من أحد المشرفين على تلك الجريدة الكاثوليكية، دعاه فيها لأن يسعى إلى التعرف على أحوال البلدان وطرائق عيش شعوبها، قبل أن يرسم عنها، لكي تكون قصصه أكثر صدقا وإقناعا.

وذلك ما فعله (هيرجيه) لاحقا، وبذل من دونه جهودا حقيقية ومخلصة، حتى تحول ببطل مغامراته من (الصفر) إلى (البطولة المطلقة) كما عبر عن ذلك (توم مكارثي) في كتابه (تان تان.. وسر الأدب) الذي صدر عن مطبوعات (غرانتا) خلال عام 2005، والذي عني، على وجه خاص برصد الجانب الأدبي في مغامرات (تان تان). وأذكر أن الملحق الأدبي لجريدة (الغارديان) قد اهتم بنشر فصل من الكتاب عند صدوره، وذلك لأهمية السؤال الذي طرحه وحاول الإجابة عنه، عما إذا كان هيرجيه، في أعماله، رسام مغامرات أم روائيا؟

وقد خلص إلى القول بأنه كان مزيجا من الاثنين، وأحسب أن هذا القول هو أبلغ تكريم للفنان الكبير.

* شاعر عراقي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء