تخلّص العراق من جزء كبير من دكتاتورية حزب البعث، فجر التاسع من نيسان/إبريل 2003، وإن مازالت هناك ذيول لهذا الحزب مدسوسة في الجيش، والأمن العام، والاستخبارات العراقية، والمدارس، والجامعات.

Ad

فحزب البعث، الذي سيطر على قلوب وعقول الشباب العرب من المحيط إلى الخليج، مدة نصف قرن تقريباً، بدعوته للوحدة العربية، والحرية، والاشتراكية العربية، من الصعب أن يتمَّ محوه من العراق، في مدة قصيرة، فيما لو علمنا أنه مازال في إيطاليا فاشيون، ومازال في ألمانيا نازيون. وأثناء الانتخابات الأميركية الأخيرة أعلنت دوائر الأمن الأميركية اكتشافها مؤامرة لاغتيال المرشح الرئاسي الديمقراطي باراك أوباما ومجموعة من السود، من قبل ما يُطلق عليهم «النازيون الجدد» ومنهم دانيال كووارت وبول شليسلمان، من ولايتي تنيسي وأركنسو.

ولعل مما يزيد من عمق جذور حزب البعث في العراق، وصعوبة اجتثاثه في المستقبل القريب، وجود حزب البعث الحاكم بقوة في سورية، ووجود فروع لحزب البعث في لبنان، والأردن، والضفة الغربية، وبعض بلدان الخليج.

دكتاتورية البعث

كان حزب البعث الحاكم في العراق حزباً دكتاتورياً، وكذلك هو حاله الآن في سورية، فحُكم حزب البعث في العراق، لم يسمح للتعددية الحزبية أن تبرز على الساحة السياسية في العراق، كما أن الحكومات العراقية المتتابعة منذ 1979، وهو العام الذي تسلّم فيه صدام حسين الحكم بشكل فعلي، كانت تتشكل بكل وزرائها من البعثيين. وكذا الحال في سورية بعد أن تولّى حافظ الأسد الحكم في 1970، وما قبل ذلك، منذ انهارت الوحدة السورية-المصرية عام 1961، وتمَّ الانفصال، بل إننا قرأنا الكثير عن ممارسات حزب البعث العراقي (القيادة القومية) التي كانت تشير إلى قمع كل فئة حزبية أو سياسية لا تدين بمبادئ الحزب، أو لا تنتمي إليه. ثم تحوّلت هذه الدكتاتورية من دكتاتورية الحزب الواحد إلى دكتاتورية الفرد الزعيم الأوحد، وهو صدام حسين، الذي قال مرة للمفكر البعثي الشهير والأمين العام السابق لحزب البعث منيف الرزاز (1919-1984): «إن قدمي أكبر من حذاء حزب البعث». وكذا كان الحال أثناء حكم حافظ الأسد، الذي استمر ثلاثين سنة، ومازالت الدكتاتورية السياسية الفردية هي التي تطبع عهد الرئيس بشار الأسد.

دكتاتورية «الائتلاف العراقي الموحد»

لم يكن في تصوري– أو في تصوّر أي مراقب آخر- أن يستبدل العراق بعد فجر التاسع من نيسان/إبريل 2003 دكتاتورية البعث ودكتاتورية صدام، بدكتاتورية فئة دينية واحدة، وأحزاب دينية واحدة، وهي «الائتلاف العراقي الموحد» الشيعي، الذي يضم تجمعاً لأحزاب دينية شيعية، كحزب الدعوة، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والتيار الصدري، وحزب الفضيلة.

كما لم يخطر ببالي– أو في بال أي مراقب آخر- أن المرجعيات الدينية الشيعية سوف تكون هي الحاسم والفيصل في القرارات السياسية، بعد أن قطع العراق شوطاً كبيراً بفصل الدين عن الدولة، وتبني جوانب من العلمانية منذ الاستقلال عام 1921 إلى عام 2003.

لقد فوجئنا في الانتخابات التشريعية في عام 2005، أن الأحزاب الشيعية– كأحزاب دينية وليست سياسية- قد اكتسحت، ونالت أغلبية مقاعد مجلس النواب العراقي (140 مقعداً من إجمالي 275، وهو عدد مقاعد البرلمان العراقي)، وأصبح القرار الوطني العراقي منوطاً بها. واتضح هذا من خلال النقاش الطويل والجدل العقيم حول الاتفاقية الأمنية الأميركية-العراقية. وكيف أن النواب والوزراء الشيعة خصوصا المنضوين تحت جناح «الائتلاف العراقي الموحد»، قد رفضوا هذه الاتفاقية، وطالبوا بتعديلات مختلفة عدة مرات، وتظاهر أتباع مقتدى الصدر في يوم جمعة بعشرات الآلاف من المتظاهرين ضد هذه الاتفاقية. ولنلاحظ أن إيران– وعلى لسان كل المسؤولين فيها، وعلى رأسهم خامئني وحائري– قد رفضت مبدأ هذه الاتفاقية، واعتبرته مساساً بالكرامة العراقية والاستقلال العراقي.

وقال النائب عن «القائمة العراقية» عزت الشابندر: «إن الدور الإيراني واضح ومُعلن وصريح في تأثيره على بعض الأطراف المحلية الرافضة للاتفاقية الأمنية المزمع توقيعها مع الولايات المتحدة الأميركية»، مدللاً على ذلك، بأن بعض هذه الأطراف، أعلنت بشكل صريح، أنها تلتزم بخُطى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي وكاظم الحائري، وهما يُحرّمان توقيع هذه الاتفاقية أو الدفاع عنها». وأضاف الشابندر: «أن خامنئي يعتبر أن من يعمل ضد الاتفاقية ويُقتل، يموت شهيداً».

دكتاتورية إيران تُطْبِق على العراق

من الواضح، أن العراق يكاد يُحكم الآن، بالطريقة نفسها التي تُحكم بها إيران، منذ 1979، عندما اندلعت ثورة الخميني. أي أن رجال الدين المتقمصين في ثياب سياسية هم الذين يحكمون، وكما يعود كل قرار مصيري للمرشد الأعلى في إيران علي خامئني، فهناك أيضاً مرشد أعلى في العراق للشيعة، وهو علي السيستاني القابع في النجف، والذي بيده القرار العراقي المصيري، ما عدا ما يخص الأكراد، الذين استطاعوا عن طريق تثبيت الفيدرالية العراقية، وقيام إقليم كردستان العراق العلماني، أن يفلتوا من القبضة الإيرانية، ومن القبضة الدكتاتورية الشيعية. وأعلنت القيادة الكردية من إربيل والسليمانية، بأنها ترحب وتقبل الاتفاقية الأمنية الأميركية-العراقية، وهي في مصلحة العراق، وأمن العراق، ومستقبله.

تصدير الثورة الخمينية للعراق

لقد أثبت امتحان الاتفاقية الأمنية العراقية-الأميركية، بما لا يدع مجالاً للشك، بأن سياسة إيران تعتبر العراق الحالي امتداداً للثورة الخمينية، وترسيخاً لمبادئها في الخارج. وهذا ما حلُمت به إيران منذ عام 1979، لتصدير الثورة الإيرانية إلى الخارج. وإيران إضافة إلى ذلك، ومن خلال عناصر الحرس الثوري المنتشر في العراق، ومن خلال دعم الأحزاب الشيعية، التي هي في معظمها أحزاب دينية، ومن خلال فتح الحدود العراقية-الإيرانية لتصدير السلاح، والمدربين الإيرانيين والإرهابيين إلى العراق (كما هو حاصل منذ فترة حتى الآن بين سورية ولبنان) تستعمل إيران العراق الآن كرأس حربة لمعاداة أميركا، رغم أن أغلبية العراقيين يرون أن هذه الاتفاقية الأمنية مفيدة للعراق، وستحفظ حقوق العراقيين، وستساعد على تحقيق الأمن والرخاء، من خلال استطلاع شمل 1000 شخص من خمس محافظات (بغداد- بابل – ديالى – النجف - الناصرية)، كما نشر ذلك موقع «عراق الغد» في20/10/2008.

لا ديمقراطية من دون العلمانية

إن معظم المراقبين العراقيين، يرون أن الاتفاقية الأمنية العراقية-الأميركية هي المحك والاختبار الكبير لمدى استقلالية القرار العراقي، وعدم ارتباطه بموقف الأحزاب الشيعية المضاد من أميركا، كذلك عدم ارتباطه بالقرار الإيراني المعادي كليةً لأميركا. ولكننا نرى من خلال موقف معظم المراقبين، ومنهم الباحث العراقي الدكتور كاظم حبيب في مقاله (هل من تكالب إيراني-سوري على العراق؟) أن الدكتاتورية الشيعية بجناحيها في العراق وإيران، تفرض الآن الأمر الواقع على العراق، من خلال هذه الاتفاقية الأمنية، التي كان من المفروض أن يتمَّ توقيعها في يوليو الماضي، ولم تُوقَّع حتى الآن.

لقد أصبحت الديمقراطية العراقية من خلال كل ذلك بعيدة التحقيق، في ظل الدكتاتورية الدينية الشيعية الجديدة، التي حلَّت محلَّ دكتاتورية حزب البعث. فلا ديمقراطية من دون علمانية، وفصل الدين عن الدولة.

بينما تتحقق العلماني- جزئياً- من دون ديمقراطية، والمثال الواضح على ذلك في الماضي ألمانيا النازية، وفي الحاضر عهد صدام حسين في العراق، وعهد الأسد في سورية.

* كاتب أردني