مع تفاقم الأزمة المالية العالمية بدأت الأنظار تتجه إلى النفط، وأخذت بعض الألسن تحمّل ارتفاع أسعاره مسؤولية الزيادة التي شهدتها كل السلع، خصوصا المواد الغذائية، وترى في الأموال التي تراكمت في خزائن الدول المصدرة له أحد العوامل المساعدة في تجاوز هذه المحنة التي لم يمر بها العالم منذ أزمة الكساد الكبير التي وقعت عام 1929. ولعل رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون كان واضحا في التعبير عن هذا الموقف حين أكد أنه سيطلب من دول مجلس التعاون الخليجي حين يحل ضيفا عليها أن تضخ أموالا في شرايين الاقتصاد الدولي، بالتوازي مع إجراءات تضمن تدفق النفط بالمستوى الذي هو عليه الآن، أو زيادة، حتى تقف الأسعار عند حدها، وتعود الأوضاع المالية العالمية إلى حدودها.

Ad

الكل يعول على النفط ومنتجيه ومصدريه، رغبة وطمعا، لكن أحدا لم يهتم يوما بحال ومصير هؤلاء المنتجين والمصدرين حين هوت أسعار النفط إلى أدنى مستوى لها في عامي 1998 و1999. يومها كانت دول الخليج تعيش خوفا متزايدا، وتعيد حساباتها، وتفكر في إجراءات تقشفية، وتخشى أن يأتي اليوم الذي لا تستطيع فيه أن تدفع رواتب موظفيها العموميين، وأن تحقق الرفاه الاجتماعي، الذي هو شرط أساسي لوجود واستمرار هذه الدول، وإحدى الركائز المهمة لحال التراضي العام والتوافق وشبه الإجماع على نخبها الحاكمة. ومن هنا فإن تلك الأزمة لم يقتصر التفكير في آثارها على الأوضاع الاقتصادية بل امتد إلى الأوضاع السياسية، فتلبدت كل تفاصيل الحياة في منطقة الخليج بغيوم كثيفة.

يومها لم يتدخل أحد من كبار مستهلكي النفط ليساعد أسعاره على الارتفاع، حتى تستمر عملية إنتاجه وتصديره مجدية من الناحية الاقتصادية، وكانت شركات التنقيب عن النفط واستخراجه وتكريره تحصل على النسب المخصصة لها كاملة، ويذهب إلى خزائن دول الخليج الفتات. وهذا التراجع في سعر النفط لم يؤد إلى انخفاض في أسعار السلع المعمرة التي تستهلكها دول الخليج بغزارة، مثل السيارات وأجهزة التكييف ومواد البناء وأجهزة التلفاز والحواسيب والفيديوهات ناهيك عن السلع الغذائية.

وهذا الصمت والتواطؤ من قبل الدول الصناعة الكبرى جعل الدول المصدرة تتحرك في سبيل إنقاذ اقتصاداتها، وكانت الخطوة الأولى اجتماعا انعقد في مدريد بين وزراء نفط المملكة العربية السعودية والنرويج وفنزويلا، بعدها بدأت أوبك سلسلة من تخفيض متدرج للإنتاج، حتى تحسنت الأسعار، وتقدمت إلى وضع مقبول ففاقت الثلاثين دولارا للبرميل. لكن هذا السعر العادل لم يعجب المستوردين فأخذوا يتحدثون عن أن السعر المتوازن والعادل للبرميل الواحد هو 25 دولارا، مع أنهم سبق أن قبلوا بسعر متدن لم يتعد تسعة دولارات، ولم يتحدثوا أبدا يومها عن هذا التوازن وذلك العدل.

وحين انتعش السعر ووصل إلى مستوى طبيعي، لم يصمت المستوردون بل طالبوا أوبك بأن تخفض إنتاجها، واستجابت المنظمة لهذا الطلب، رغم ارتفاع حجم الكميات المهربة في سوق النفط الدولية. وظهر خبراء ومسؤولون في دول الخليج يتحدثون عن أمرين أساسيين: الأول هو أن ارتفاع السعر إلى مستوى لا يقبله المستهلكون سيدفعهم إلى البحث عن بدائل للطاقة من جهة، والبحث عن أماكن أخرى لإنتاج النفط في أفريقيا وبحر قزوين وبحر الشمال من جهة ثانية، والثاني هو أن ارتفاع سعر النفط قد يضر بمصالح دول يراها «مجلس التعاون» أصدقاء ويعول عليها في مسائل أمنية واستراتيجية ليس من اليسير التضحية بها، من هنا ارتفع شعار يقول إن المصلحة تقتضي التفاهم لا التنافس أو المكابرة. وغلب هذا الصوت غيره، ولعبت السعودية دورا كبيرا في تحقيق مطالب المستهلكين، وتعهدت غير مرة بسد أي عجز في المعروض النفطي، ونفذت ما تعهدت به، ولم تخذلها دول الخليج الأخرى الأعضاء في منظمة أوبك. وتنسى الدول الصناعية الكبرى في غمرة أنانيتها المفرطة، ودفاعها المستميت عن مصالحها، أن دول الخليج لم تحبس الأموال التي جنتها من الطفرة النفطية الأخيرة، بل أعادت ضخها في سوق المال العالمي، عبر مسارات عدة، أولها الودائع الخليجية الضخمة في الدول الغربية خصوصا الولايات المتحدة الأميركية، وثانيها استثمارات الخليجيين، دولا وأفرادا في العديد من الدول الأوروبية وأميركا، وثالثها فاتورة شراء السلاح، التي تصل بعض صفقاتها إلى ما يربو على ثمانية مليارات دولار دفعة واحدة، ورابعها ارتفاع نسبة إقبال الخليجيين على السلع المعمرة التي تنتجها الدول الصناعية.

كل هذه المسارات تتناساها الدول الصناعية الكبرى وهي تعاود الضغط على دول الخليج، وكل منتجي النفط في العالم، مع أن سعر البرميل هبط إلى نصف ما كان عليه قبل شهرين، وقد يتراجع أكثر، وساعتها ستعود الدول المستهلكة للطاقة إلى سابق عهدها وتعطي ظهرها لمنتجي النفط ومصدريه، ولن يكون له هم ولا شغل سوى تخزين أكبر كمية ممكنة. وكل هذه أمور يجب أن تضعها دول الخليج في حسبانها ولا تنساها أبدا، ففي العلاقات الدولية لا توجد صداقة دائمة ولا حماية مستمرة، بل مصالح باقية.

* كاتب وباحث مصري