من هنا نبدأ
بالرغم من زيادة النظم التعليمية والجامعات العربية أعدادها والإنفاق عليها، فلاتزال تعتمد على طرق قديمة انتهت صلاحيتها. فهي جامعات تتسم بضعف نوعية التعليم وتعمل على غسل دماغ الطالب وترويضه لأن يكون تابعا ومطيعا وسهل الانقياد وعضوا في مجتمع القطيع بدلا من أن يكون مفكراً أو قائداً أو مبدعاً.يأتي مؤتمر «تطور الجامعات والتفكير النقدي في شبه الجزيرة العربية» الذي نظمته الجامعة الأميركية في الكويت بالتعاون مع كلية دارتموث هذا الشهر ليطرح أهم وألح القضايا على الإطلاق. ولا عجب أن تبادر الجامعة الأميركية في نقاش هذا الموضوع الحيوي .. فهي الجامعة التي تعتمد على الآداب الحرة والتعليم الليبرالي الذي يعد الطلبة ويعلمهم التفكير النقدي ومهارات البحث والكتابة الإبداعية والعمل الجماعي وتطوير الشخصية المستقلة ونقد الذات والتعليم طوال الحياة... فمناهجها المفتوحة على كل الثقافات تعتمد على الحرية الأكاديمية ومعايير جودة التعليم الكيفي مقابل الكمي، والتي تمد الطالب بمهارات تعد اليوم أقوى سلاح يتحدى بها الطالب نفسه والناس من حوله... كما تؤسس هذه الجامعات نظام المنح وقروض الطالب حتى لا تكون مؤسسة طبقية تخدم فئة معينة من المجتمع.
وقد تحدث الأمير الحسن بن طلال في هذا المؤتمر عن أهمية التعليم الليبرالي الذي يصقل التفكير النقدي ودعا إلى «غرس القيم الفكرية الضرورية وحب الفضول في أذهان الطلبة والباحثين بحيث يمتلكون الشجاعة الفكرية بدلاً من الجبْن الفكري، والتواضع الفكري بدلاً من التكبر الفكري، والتعاطف الفكري بدلاً من الانغلاق الفكري، والاستقلال الفكري بدلاً من التكيف الفكري، والنزاهة الفكرية بدلاً من النفاق الفكري، والمثابرة الفكرية بدلاً من الكسل الفكري، والثقة بالعقل بدلاً من عدم الثقة بالعقل والبرهان، والإنصاف الفكري بدلاً من غيابه». وبهذا يتم «إغناء البلدان في أفضل مواردها، الموارد البشرية».هذا بالنسبة للتعليم الليبرالي... أما النظم التعليمية والجامعات العربية، فبالرغم من زيادة أعدادها والإنفاق عليها، فلاتزال تعتمد على طرق قديمة انتهت صلاحيتها. فهي جامعات تتسم بضعف نوعية التعليم وتعمل على غسل دماغ الطالب وترويضه لأن يكون تابعا ومطيعا وسهل الانقياد وعضوا في مجتمع القطيع بدلا من أن يكون مفكراً أو قائداً أو مبدعاً. فمناهجها قائمة على الحشو والتلقين والحفظ، وسياساتها، التي تتأسس على الحقيقة المطلقة وترفض النسبية، تقمع الطالب وتمنعه من تكوين آرائه وحججه بنفسه، فهي مسيَّسة ومنحازة لفكر عقائدي معين لا يؤمن بأهمية الفلسفة والآداب الإنسانية، وضعيفة في مجال البحث العلمي وغير متمكنة فيما يتعلق بمعايير التنافسية بل تكملها البيروقراطية المشلة. ويفتقد هذا النوع من التعليم المناهج الأساسية لبناء شخصية واعية مستقلة تتسم بالمسؤولية المجتمعية والأخلاقية، مثل مناهج حقوق الإنسان والديمقراطية. بالإضافة إلى عدم توافر الأدوات التعليمية التي تحفز على الإبداع وتميز الفردية بدلاً من الثقافة الجمعية التي تنتج ثقافة الراعي والرعية حيث لا تستطيع أن تفرق بين الناس لحجم تشابههم. كما أن تلك المناهج تبتعد كل البعد عن خلق الاقتصاد المعرفي الذي يطور مهارات التفكير الاستراتيجي في حل المشكلات بشكل إبداعي بل تنتج مخرجات مترهلة تزيد من تورم القطاع الحكومي. وهو ما تقره تقارير الأمم المتحدة التي أكدت عدم بلوغ التعليم العربي المتوسط العالمي. ولا عجب بعد ذلك حين نجد الطلاب في مجتمعاتنا، الذين تخرجوا من منظومات الجهل المؤسس، حسب تعبير أركون، والذين تم حشو عقولهم بالبراهين الجامدة والثوابت، نجدهم ثابتين على حالهم بل يعانون ازدواجية صارخة تشل قدرتهم على صناعة المستقبل وتطويره. وهم بذلك يهددون الأمن الثقافي للمجتمع ويفقدونه المرتكزات الأساسية للتقدم وأسباب التطور. فلا إصلاح حقيقياً ولا تغيير دون غرس قيم التفكير النقدي في مجتمعنا. إن التعليم الجامعي القائم على حرية الفكر والتفكير النقدي، المعتمد على طرح الأسئلة أكثر من اعتماده على تلقين الأجوبة الثابتة، هو البداية إن أردنا خلق مسؤولين متسامحين يؤمنون بحق الاختلاف ويتمتعون بالمسؤولية الاجتماعية ويعملون على تحفيز الإنتاج وغرس القيم الإيجابية، أما إذا كان النظام التعليمي يرتكز على التسلط وفرض الرأي الواحد فسنخلق جيلاً استبدادياً سلبياً خاملاً يتكل على الدولة الريعية الأبوية ويتعامل بنفس الأسلوب مع أبنائه وموظفيه وعملائه.فالتفكير النقدي والوعي المعرفي الحر يعززان من قيم المواطنة أما التعصب فيدمرها ويهدد بقاءها. فكم التحصيل العلمي لا يسوى شيئاً من دون تعليم طرائق التفكير الحر. ولا عجب أن مشروعنا الإنساني والمجمتعي مشلول ومكبل ومعطل.فإن لم نغرس الشجرة اليوم لن نستطيع النوم في ظلها غداً. كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء