ليس أقسى على الانسان من فقدان تاريخه المكاني الذي يتناوب عليه في أحلامه، كلما قرر التخلص منه في يقظته. حين يصبح الماضي الذي يتذكره أكثر واقعية من التاريخ الذي يقرؤه ويعرفه، وحين تعادل مرارة هذا الماضي ومتعته مرارة التاريخ ومتعته بأكمله، يبقى الأصعب هو اختيار اللحظة التي يقررها تاريخا مفصليا له، هل هي لحظة الوجود الفعلي حين بدأ يتنفس أول هواء؟ أم هي لحظة أول وعي بهذا الوجود؟ والأكثر صعوبة هي لحظة التسجيل الدقيق أو شبه الدقيق لهذا الوعي بالمكان.

Ad

حين أراد ذات يوم الروائي والشاعر الكندي روبرت كروتش أن يسجل وجوده الحقيقي في هذه البراري التي انتقلت اليها عائلته باحثة عن أرض أكثر خصوبة، أقل صخبا، وأكثر بعدا عن مكانها التاريخي، لم يجد ما يستند إليه في إرث العائلة الجديد سوى كتيّب توزعه مصلحة الزراعة كدليل للمزارعين الباحثين عن جنة عدن التي غادرت السماء السابعة الى الأرض. ما الذي يمكن أن يحفّز ذهنا لا ينتمي الى المكان في تسجيل تاريخ المكان، أكثر من كتيب صغير اسمه كتالوج البذور؟

لم يجد كروتش في كتالوج البذور سوى حكايات زراعة البطاطا في ذلك الشهر دون سواه، وليس هناك أكثر من التقنية الخارقة في الاعتناء بالملفوف والتخلص من الآفات الزراعية والخنازير الأرضية وحيونات البادجر التي تتلف الجذور، هناك انفصال حاد بين الماضي العريق للأسرة المهاجرة من ألمانيا الى «ألبيرتا» والأرض الجديدة التي تزرع بناء على تجارب معاهد الأبحاث الزراعية، وليس على الخبرات الانسانية المتراكمة، هناك شبه احتدام بين نظريات هايدجر الفلسفية، مقالات يونغ النفسية ودراسات فوكو التاريخية، وما استطاع كروتش انتشاله من ارث العائلة ممثلا بهذا الكتالوج الكئيب في ذهن الرجل الذي أطلقوا عليه سيد ما بعد الحداثة الكندي.

لكن كروتش كان عبقريا بأن يكتب ما كان يجب أن يصمت عنه! لأن يصنع من كتالوج البذور قصيدة حادة وحارقة تؤسس شعرية غير متوقعة، واحياء التقاطات ميتة ليس لها أن تثير شاعرا أو رجلا عاديا، لم يكن حوله سوى عامل مزرعة يضحك كلما ارتقى كروتش صهوة الحصان سقط عنه قبل أن يتحرك الحصان، وتعليقات العامل «هل هناك من يسقط عن ظهر حصان لم يتحرك بعد؟»، لم يكن حوله سوى والده الذي يصوّب بندقيته نحو حيوان البادجر في حقل البطاطا، ليقتل طائر العقعق الذي يقف بعيدا جدا عنه، ولم يكن سوى شقيقه الطيار المقاتل الذي حددت له مهمة قصف قرية ألمانية لم تكن سوى قرية جدته، كانت الجدة تحلم بصناديق الهدايا من أحفادها ليرسلوا إليها صناديق القنابل.

ولكن أليس ذلك هو الشعر؟ انه ليس حنينا لما مضى، لكنه تأسيس لما سيكون. أن تصنع من مكانك البخيل عالمك الجميل، أن تخلق من الأبيض السرمدي صيفك الذي ينتاب أحلام الشتاء، أن تتذكر كل ليلة قبل أن تنام نزع ذاكرتك، نظارتيك، وساعتك لتضعها على الطاولة الصغيرة التي تكتب عليها قصيدتك؛ لترتاح من كوابيسك، لتنسى سطوة ماضيك الشعري وزهوك الفردي بأنك كنت يوما ما امتدادا لسلسة لا تنقطع من أهل البيان الساحر وصانعي مجد الكلام، أن تفهم أنك لست سوى أنت وأنت فقط.

هذه المعادلة الكتابية الصعبة، أحاول أن أجيدها وأفشل، هل لأنني كاتب من الشرق لا ينام من دون أن يلبس ارثه الشرقي كما يلبس منامته؟ ربما، لا، بالتأكيد هو كذلك والا لماذا تحرقني الشمس كل ليلة قبل أن أنام؟!