من الممكن إيذاء إسرائيل وتنغيص حياة المحتلين وحرمانهم من الأمن المطلق الذي لا يرتضون بأقل منه، لكن ثمن ذلك شيئان: دمار واسع يلحق بمجتمعاتنا وينال من فرص حياة كريمة لمئات الألوف أو الملايين منا؛ وتصلّب نفسي وروحي في مجتمعاتنا أيضا، ينال من نوعية الحياة فيها.
كاتب هذه السطور منحاز إلى فكرة أن الصراع العربي-الإسرائيلي «صراع وجودي» فعلا. فلا مجال للتعايش مع إسرائيل التي قامت تجربتها المكونة على طرد شعب كامل من أرضه بالقوة، والتي يقتضي دوامها بالذات نفيه ونكران وجوده أو مساواته لها في المرتبة الوجودية. ونتكلم على صراع وجودي لأن مشروع إسرائيل بالذات يقتضي إبادة مستمرة للوجود الوطني والسياسي للفلسطينيين، ما يعني ألّا حياة لفلسطين دون تحجيم المشروع الإسرائيلي ونزع صهيونيته، ما يعادل في الواقع زوال إسرائيل ذاتها. والعرب معنيون جميعا بهذا الوضع، ليس لقرابتهم مع الفلسطينيين فقط، إنما لأن إسرائيل تعتبر ذاتها امتدادا «للعالم الحر» (الغرب) وقيمه، الأمر الذي يعني امتناع الشراكة والندية بينها وبين محيطها العربي، ومن جهته يكفل «العالم الحر» وجودها وأمنها وتفوقها النوعي على العرب مجتمعين، مع حرص أشد على ألّا يجتمع هؤلاء العرب أبدا. إسرائيل كيان غير طبيعي وثمرة مشروع صنعي، أوروبي إنشاءً وأميركي رعايةً وتحصيناً، مشروع يتجدد خلْقه باستمرار بالقوة والتغذية الصنعية من الغرب. والطريقة التي يتكلم بها اليوم زعماء غربيون على التزامهم الثابت بإسرائيل وأمنها (ساركوزي، أخيراً) و«تفوقها النوعي» (أوباما) ليست غير أخلاقية ومثيرة للاشمئزاز وعدائية حيال العرب فقط، إنما هي برهان إضافي على انتماء إسرائيل إلى الغرب وعلى غربتها وجذرية تعارضها مع مطامح العرب الاستقلالية والتحررية. الصراع مع إسرائيل وجودي فعلا. لكن بمجرد الكلام عن صراع وجودي ينبغي أن نضيف إنه صراع تاريخي، وإلا انقلب إلى صراع عدمي، باهظ الكلفة الإنسانية ومدمر لمجتمعاتنا قبل غيرها، بالنظر إلى أن الكيان المعتدي فائق التسلح، تُظاهِره على الفلسطينيين والعرب الكتلة الدولية الأقوى والأغنى والأكثر تحضرا في العالم، الغرب. والكلام على صراع تاريخي يقتضي أن يتجه تفكيرنا إلى المدى الطويل، العقود والأجيال، لا إلى الزمنية السياسية والعسكرية القصيرة، وإلى الوسائل الثقافية والسياسية والاقتصادية والعلمية والأخلاقية في الصراع، مع تفادي الوسائل العسكرية إلى أقصى حد ممكن، فمن شأن التعويل الحصري على سبل المواجهة العسكرية، أن يكون بمنزلة استدراج للنفس إلى الهزيمة، ما دام عدونا متفوقا علينا في هذا المضمار إلى درجة واسعة. ولذلك ينبغي أن نضيف أن الصراع الوجودي والتاريخي هو أيضا صراع حضاري، الفوز فيه للأكثر تحضرا. وكلمة حضاري في هذا السياق تفيد التقدم المادي (العلمي والتقني...) وكذلك المثال الأخلاقي الرفيع، وينبغي الاعتراف بأن إسرائيل المتفوقة علينا تفوقا حاسما في الدائرة المادية، ليست متأخرة عنا في الدائرة الثانية. في مدة ثلاثة أسابيع دامها التنكيل في غزة، و33 يوما استطالت لها حرب يوليو «تموز» 2006 ضد لبنان، سبق لأنظمة عربية أن نجحت في قتل عشرات الألوف من مواطنيها، وليس أقل من 1500 من أعدائها في كل من المواجهتين.إسرائيل تسترخص حياة العرب، لكن قبلها هذه الحياة رخيصة فعلا، لطالما كان سهلا العبث بها وتبديدها والتخلص منها بيسر بالغ، وعلى يد النظم التي تتكلم على مواجهة إسرائيل أكثر من غيرها (على أن الشر الإسرائيلي نوعي، لا يقاس بعدد الضحايا وحده، بل بالخصوص في العدوانية الجوهرية للكيان الإسرائيلي وفي عنصريته المتأصلة، النافية للمساواة مع الفلسطينيين والعرب، وهو ما يتضمن، كإمكانية مجردة، إبادة العرب أجمعين إن تعرضت إسرائيل لخطر وجودي). أما أول ما يعول عليه لخوض صراع وجودي فهو تمكين وجودنا وتعزيزه وترسيخه، ومنح الأولوية لبناء نموذج ثقافي ونمط حياة منافس للنمط الإسرائيلي ومؤهل مع الزمن للتغلب عليه، وهذا يوجب بداهة رفع قيمة حياة مواطنينا، وجعل كل منهم مركزا لحق بالحياة والحرية لا يستلب. والواقع أن من الممكن فعلا إيذاء إسرائيل وتنغيص حياة المحتلين وحرمانهم من الأمن المطلق الذي لا يرتضون بأقل منه، وذلك حتى بقوى أدنى من قواهم بكثير. لكن ثمن ذلك شيئان: دمار واسع يلحق بمجتمعاتنا وينال من فرص حياة كريمة لمئات الألوف أو الملايين منا، فضلا عن الضحايا المباشرين؛ وتصلّب نفسي وروحي في مجتمعاتنا أيضا، ينال من نوعية الحياة فيها، ويضيق آفاق الفكرية والروحية وتوقعاتها من الحياة، ويقلل من هوامش التسامح والتنوع الفكري والسياسي فيها، وهذا يتحقق أكثر وأكثر منذ ربع قرن على الأقل، فلماذا نثابر على نهج قد يزعج عدونا، لكنه يدمرنا ماديا وسيكولوجيا؟ يبدو لي أن الإصرار على هذا المسلك، رغم عقمه الظاهر وعدميته الأكيدة، موصول بملاءمته لترسيخ هياكل سلطة استبدادية لا بجدواه التحررية المعدومة، إنه يؤمن ويسوغ الاستنفار اللازم من أجل تقييد السكان سياسيا والتلاعب بوعيهم، وتركيز السلطة والثروة في أيدي حاكميهم. وبهذه الصفة فإن المسلك هذا معاكس لتمكين وجودنا ورسوخنا في العالم الذي يقتضيه صراع وجودي مديد، وهو ما تشهد عليه الهجرة المتسعة من مجتمعاتنا، للشباب بخاصة، فيا لها من سياسة هذه التي ينهزم فيها المواطنون، بينما يبقى الوطن «صامداً»!وليست الهجرة إلى الماضي والدين مختلفة عن الهجرة على الخارج من حيث ترتبها على تحويل صراع وجودي إلى معركة سياسية أو خطة للصراع السياسي والعسكري هنا والآن، أي إلى صراع عدمي، وقبل ذلك من حيث كونها مسعى بديلا للتمكين الوجودي.* كاتب سوري
مقالات
الصراع الوجودي والصراع العدمي (1-3)
22-01-2009