لأول مرة في تاريخ الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية للعرب، يعترف مسؤول سياسي كبير بدرجة- رئيس دولة- بفشل سياسته، لقد كانت شجاعة محمودة للرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقه أن ينتقد في خطاب علني سياسته على امتداد 10 سنوات من الحكم، ويقول: إن المحصلة النهائية لتلك السياسات «سلبية»، ولا تقود إلى «الجنة» الموعودة، ولذلك لابد من «نقد الذات» و«المراجعة الجذرية» لأشياء كثيرة، بعدما تأكدنا أن الطريق غير موصلة الى الجنة التي وعد الناس بها. جاءت هذه الانتقادات العلنية غير المسبوقة في خطاب الرئيس الجزائري بالعاصمة الجزائرية أمام رؤساء البلديات (1541 منتخباً) وأعضاء الحكومة وكوادر الدولة، وقال: «إن الجزائر أضحت بلداً معروفاً بالمخدرات والتراباندو (المضاربة) والآفات الاجتماعية»... في إشارة إلى استفحال الجريمة المنظمة والسرقة وجرائم الخطف والأنشطة الاستثمارية الطفيلية. وبطبيعة الحال لم يخلُ خطاب بوتفليقه من ذكر بعض الجوانب الإيجابية، لكنه أضاف «لو كنا نملك حماساً وإيماناً أكبر لكنا أنجزنا ضعفي ماحققناه».

Ad

نقلت وكالات الأنباء هذا الخطاب ونشرته الصحف كلها، لكنه مرّ من دون أن يحظى بالاهتمام الكافي من قبل المعلقين والكتاب، ربما بسبب التوقيت، لكنني أتصوره خطاباً- استثنائيا- في دنيا العرب، وغير مألوف على مستوى الممارسات والثقافة العربية، ومن هنا يكتسب هذا الخطاب أهميته، كونه «اعترافاً» من رئيس دولة. نحن لا نعرف في المحيط العربي مسؤولاً سياسياً صغيراً أو كبيراً اعترف بخطئه!

بل لا نعرف زعيم «حزب» سياسي أو «مثقفاً» أو «عالم دين» أعلن تراجعه عن توجهاته أو أفكاره أو فتاواه، حتى بعد تبين خطئها! «ثقافة الاعتراف» بالخطأ، ثقافة مهمّشة في المجتمعات العربية- سلوكاً وممارسة- رغم أنها من تعاليم الدين كما في قيم «التوبة» و«محاسبة النفس» و«النفس اللوامة» والعشرات من النصوص الدينية التي تحث على فضيلة الاعتراف بالخطأ والتوبة، لكن الثقافة المجتمعية السائدة، همشت ثقافة «نقد الذات» لمصلحة ثقافة «لوم الآخر» كونها الأنسب لمرحلة «النضال»، فأصبح مَن ينتقد السائد في الفكر والثقافة والتراث والسياسات العامة، متهماً بالتآمر والعمالة، وارتبطت مفاهيم «الولاء» و«الانتماء» و«الهوية» و«الوطنية» بايديولوجية «النضال» لا «التنمية والبناء».

محصلة «الفشل» في الجزائر، هي جزء من محصلة «الفشل» العربي- عامة- لمشاريع التنمية كلها، فما هو حاصل في الجزائر، حاصل في المجتمعات العربية جميعها بدرجات مختلفة. لقد تراكمت الأخطاء وعجزت الحكومات العربية عن الإفادة من دروس الماضي، واستمرت الممارسات السياسية الخاطئة على امتداد نصف قرن في ظل الحكم الوطني الذي هللت له الجماهير بعد رحيل المستعمر وتسلم التيار القومي السلطة. والذي انحرف عن أهدافه وتخلى عن وعوده للجماهير التي ساندته، إذ أصبح الحكم «مغنماً» للأنصار والمحاسيب و«تسلطاً» على الشعب. القوميون تفننوا في التنكيل بالمعارضين، أهدروا كراماتهم وانتهكوا آدميتهم ثم ضيَّعوا الثروات والموارد والإمكانات ودخلوا في مغامرات عسكرية جلبت الكوارث لأوطانهم، وهكذا في النهاية خسروا الأوطان والإنسان، وذلك كله باسم «المقاومة» و«النضال»، ومع ذلك مازالوا يكابرون ولايعترفون بأخطائهم، وهاهو كبيرهم يطل عبر «الجزيرة» كل أسبوع مبرراً ومدافعاً عن تلك السياسات الفاشلة.

وما ينطبق على التيار القومي بوجهيه (الناصري والبعثي) يصدق على التيار اليساري وكذلك تيار الإسلام السياسي «الإخوان»، وقد صرّح مرشدهم- من قريب- بأن «الإخوان لايعتذرون»... سبحان الله مَن لا يعتذر، معناه أنه لا يخطئ! ومن لا يخطئ فهو فوق البشر!

لقد أفرزت إيديولوجية «النضال» فكراً شمولياً تسلطياً، جرّم أي نقد لمؤسسة الحكم ورجالاتها وتصرفاتها بحجة أن ذلك يخدم العدو ويضعف الجبهة الداخلية، ولكن ذلك أدى إلى تغييب ثقافة «المساءلة» والنقد والمحاسبة، وكانت النتيجة الأليمة، أن نُكبت مجتمعاتنا بسلسلة من الهزائم المنكرة وأخفقت المشاريع التنموية كلها، والأخطر من ذلك كله، أن تغييب ثقافة المساءلة، أدى إلى إيجاد أرضية مجتمعية مهيأة لدعم قوى التطرف التي استطاعت تحويل قطاع من شبابنا إلى مشاريع جاهزة للتفجير والتدمير... لقد كان نصف قرن من الفشل والضياع للمشاريع العربية كافة، والهدر للإمكانات والفرص كلها، وكانت المحصلة النهائية للطروحات الفكرية للتيارين العريضين: القومي والإسلام السياسي، ثماراً مريرة، وأوضاعاً متردية واقتصاداً مثقلاً بالديون، وعالة على المساعدات الخارجية في المجتمعات العربية كافة، باستثناء الخليج.

لقد نجح التياران العريضان: القومي والإخواني في تكريس أمرين هما:

1 - فكرة الزعيم أو القائد «الملهم» الذي يقود الجماهير إلى «مهاوي» الهلاك.

2 - إشاعة ثقافة الكراهية والاقصاء والتخوين واتهام الخصوم السياسيين بأنهم «عملاء» للغرب.

ومن المدهش أنه بعد فشل التيارين في تحقيق أي إنجاز تنموي يعطي أملاً للجماهير العربية، وبعد سلسلة من العداوات الدامية والتصفيات الجسدية، أصبحا- اليوم- إخوة متحابين، يلتقون في مؤتمرات سنوية تحت مسمى «المؤتمر القومي الإسلامي» ليعيدوا إنتاج فكر ثبت عقمه.

وإذ لا أمل في أي مراجعة نقدية أو اعتراف بالأخطاء يقوم بها القوميون أو «الإخوان»، فلابد للمثقفين، وخصوصا الليبراليين، من جهد لتعرية الطروحات السياسية للقوميين و«الإخوان» ومحاكمتها وتجاوزها أملاً في غد أفضل للجماهير العربية، وفي إشاعة ثقافة «متصالحة» مع الذات ومع العصر والحضارة.

اعتراف الرئيس الجزائري بقصور سياسته، له أهمية كبيرة في محيط عربي تغيب فيه قيم «الاعتراف» بالأخطاء وتحمل «المسؤولية» و«نقد الذات» وتنشط فيه منظومة ثقافية معوقة لأي مراجعة تصحيحية لمجمل الأوضاع والسياسات، من أبرزها، ثقافة «الإنكار» التي ترسخت في البنية المجتمعية- لايكاد يفلت منها مسؤول سياسي أو ناشط حقوقي أو مثقف إيديولوجي أو عالم دين- وأصبحت متمثلة في تلك الحساسية المفرطة تجاه أي «نقد» خارجي يمس وضعاً داخلياً، فما ان يصدر تقرير لمنظمة حقوقية دولية يرصد انتهاكاً لحقوق الإنسان في دولة عربية، حتى تستنفر الدولة أجهزتها ومثقفيها للإنكار، ثم اتهام التقرير بجملة من الاتهامات المحفوظة مثل «التسييس»، و«الانتقائية»، و«التحيز» و«استهداف العرب».

على سبيل المثال: التقرير السنوي للخارجية الأميركية، الذي يرصد ظاهرة الاتجار بالبشر في دول العالم المختلفة، تضمن دولاً خليجية منها الكويت، ما إن صدر التقرير حتى فزع القوم وأنكروا واتهموا التقرير بالتدخل في الشأن الداخلي، ما مصداقية هذا الإنكار مع ما شهدته الساحة الكويتية من اعتصامات عمالية مطالبة بالانصاف؟ وما مصداقية الفزعة العربية لنجدة الرئيس السوداني والعالم قد شاهد آلاف الضحايا يسقطون في دارفور بفعل القوات المدعومة من السودان؟!

لقد بلغت سطوة «ثقافة الإنكار» على النفسية العربية، أن رموزاً ثقافية ودينية مازالت متمسكة بنظرية أن «الموساد» وراء كارثة سبتمبر! ما قيمة هذا الإنكار، أمام الاعترافات الصريحة؟!

ثقافة «الإنكار والمكابرة» إحدى افرازات تغييب ثقافة «الاعتراف بالخطأ»، وهي التي دفعت رموزاً فكرية ودينية وقانونية لمساندة الطغاة وتبرير سياساتهم، مع تجاهل تام لضحاياهم، وهي التي دفعت قادة التيارات السياسية القومية والدينية إلى التشبث باطروحاتهم التي تجاوزها الزمن.

«الاعتراف بالخطأ» فضيلة، وقيمة أخلاقية كبرى، وغيابها الطويل عن الحياة السياسية، هو العلة الأساسية الكامنة في استمرار مسلسل الاخفاقات العربية.

* كاتب قطري