لا تكتسي ظواهر الحرب أو مظاهرها على الدوام ثباتاً مكرّسا أو صورة مكررة، أو أنها مجردة من نيات السلام، أو الاستعداد له قبل الحرب أو بعدها أو حتى أثناءها. وفي المقابل كذلك لا تعني ظواهر السلام أو مظاهره؛ أنها لا يمكن أن تكون مخادعة أو زائفة، لا تبغي السلام فعليا وعمليا، بقدر ما هي تعمل أو تستعد للحرب.

Ad

إجمالا... نحن في هذه المنطقة؛ تلك المبتلاة بسلسلة أو مسلسلات الحروب المتناسلة، لم نعش يوما إلا في نطاقات من أوهام سلام زائف، يغاير بالتأكيد ذاك السلام الذي يعني الاستقرار والعمل على تنمية مجتمعاتنا وازدهارها حداثيا لا تحديثيا. ذلك أن الحروب الناشئة؛ أهلية أو إقليمية، لم تكن نتاج إجماعات شعبية أو وطنية أو إقليمية، وهي ليست مرغوبة على الصعيد الشعبي بشكل دائم، قدر ما هي مجرد رغبات سلطوية لدى هذا الحاكم أو ذاك النظام، ونتاجاً لاستبدادية الحاكم وسلطوية النظام أو الأنظمة التي أرادت تنفيس حالة أو حالات الاحتقان الداخلي قبل انفجارها في دواخلها الوطنية، بالاتجاه صوب الحرب أو الحروب؛ داخلية كانت أم مع خارج عدو.

وقلّما لجأت أنظمة سلطوية إلى الخيار الثاني، بل إنها كانت على الدوام ربيبة الخيار الأول؛ خيار التفجير الداخلي؛ حربا إقليمية أو حروبا ضد الجيران والأشقاء، أو حربا أهلية أو حروباً سلطوية داخلية، تمارسها السلطة ضد معارضيها، ليس بالضرورة عبر عنف شرس ووحشي، بل يمكن أن تكون لتلك الحروب نكهة قمع بوليسي عميم ضد المجتمع.. كل المجتمع؛ الخاضع منه والمتمرد ضد هيمنة السلطة الحاكمة، وأهدافها ومآلاتها النهائية في تأبيد سلطة لا ديمقراطيّة، أو سلطة فردية دكتاتورية، أو سلطة نخبة انقلابية سياسية أو اجتماعية أو دينية أو غيرها من طغم أو أوليغارشيات، رامت وتروم إقصاء الجميع للقبض على سلطة أو احتكارها داخل مجتمع الدولة ومجتمع الناس، سلطة لا سلطة فوقها؛ تراقب أو تحاسب أو تقاضي وتحاكم، سلطة بلا مرجعية شرعية أو دستورية، أو شعبية ومجتمعية، سلطة بلغت أو تبلغ أعلى مراتب الحكم الهيمني (الشمولي) الواضح في استبداديته، الفاضح في سلطويته.

لهذا... فحين تتغول الدولة -سلطة الدولة بالأحرى- يكون الاستبداد هو السبب الرئيس الناتج عن ضعف المجتمع أو القوى المجتمعية، والقوى الطبقية صاحبة المصلحة في عدم إطباق سلطة الاستبداد على الدولة. ولكن حين يتغول المجتمع -أو بعض قواه المهيمنة (الشموليّة) بالأحرى- فإن وجها آخر من وجوه الاستبداد يكون قد خط له في الواقع طريقاً نحو شكل آخر من أشكال الهيمنة؛ المفضية حتماً نحو محاولة إخضاع الدولة، ليس لمصلحة المجتمع بالتأكيد، ولكن لمصلحة فئة أو طائفة أو نخبة من هذه أو تلك؛ من الفئات أو الطوائف أو النخب التي تتصف بالفردانية الانعزالية أو النخبوية المريضة، التي سبق أن «هندست» طموحاتها السلطوية، وفككت شبكة ارتباطاتها المجتمعية «الما قبل سلطوية»، وهي التي تذهب في تغولها إلى حد تهديد الدولة والمجتمع.

إن صمت المجتمع تجاه ما يجري للسلطة من تغيرات أو تبدلات أو تحولات سلمية أو عنيفة، ديمقراطية شكلا، أو بالقوة الغاشمة للاستبداد السلطوي -الديني أو السياسي- جوهر، لابد أن يفضي، وقد أفضى كما في ضوء تجارب العديد من المجتمعات والدول والسلطات المعاصرة، إلى نشوء نوع من تواطؤ لابد للمجتمع أن يدفع ثمنه من حياته ومن حرياته الطبيعية والمكتسبة عاجلا أم آجلاً.

لذا... فأن تكون الحرب نقيض الحوار، فذلك هو الوضع الطبيعي حين تنعدم خيارات السلم. أما أن يكون الحوار أحد مؤشرات الاستعداد للحرب أو الدافع إليها في السر وفي العلن، على ما هو حال العلاقة الصراعيّة بين واشنطن وطهران، فذلك خيار من ضمن خيارات جميعها قد يفضي إلى ما لا يمكن أن يكون سلام الدول أو المجتمعات. ففي غياب الثقة المتبادلة وفي غياب عناصر التوحيد المشترك لأهداف السلم والازدهار الاقتصادي والاجتماعي، من البديهي أن تغيب عناصر السلام، ولا تعود للحضور سوى لغة الحرب... أو الحروب تلك التي ليس بالضرورة أن تقع أو تجري ممارستها بالسلاح الفتاك، ويمكنها أن تقع بأسلحة لا تدخل في نطاقات الأسلحة المتعارف عليها وعلى استخداماتها، فالإقصاء والاحتكار والمنع والحجب والانغلاق... إلخ، هذه كلّها أنواع من حروب؛ سلاحها الكراهية، مارسها ويمارسها المتحضرون والمتوحشون من الجانبين على حد سواء.

حتى السلم الذي يشكل الحوار عدوه، أو هو ليس من عدة اشتغاله، فهو شكل من أشكال الحرب، حرب الكراهية التي خيضت وتُخاض بصمت، إلى أن حدثت هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، فكانت بمنزلة جبل الجليد الّذي مايزال حتى الآن جبلاً ويكبر أكثر من ذي قبل. فكان أن بدأت في أعقابها سلسلة حروب الكراهية الإرهابية التي بدأت ترقى إلى حروب من طبيعة أخرى، جبهاتها لا تحد، وأطرافها لا تعد، وأسلحتها تتنامى، وضحاياها تتساقط من كل صوب وحدب.

* كاتب فلسطيني