رابحاً على طول الخط... رحل فارس مراد
طفولة فقيرة، شباب كفاحي من أجل فلسطين و«المجتمع العربي الاشتراكي الموحد»، سجن طويل طويل، صحة متداعية ومنع من السفر بعد الخروج من السجن، ثم وفاة مبكرة في التاسعة والخمسين.هذه هي «قصة» حياة فارس الذي قضى في السجن أكثر من نلسون مانديلا: 29 عاما ناقصة بضعة شهور. مصير سوري نموذجي لهذا الفلسطيني السوري العربي، الذي احتفظ رغم كل شيء بالتفاؤل التاريخي الشيوعي وصرح بأنه «لم يخسر شيئا»، بل مضى إلى حد القول إنه «رابح على طول الخط».
يدرك فارس مراد أن ما يقوله مستحيل، فيضيف: «حتى لا يظن أحد أنني أتواضع تواضعاً كاذباً، أنا معتد كثيراً بنفسي. لكن حقيقة، عندما أنظر إلى ما قمت به وقدمته إلى وطني، أراني مقصراً. هناك أشخاص قدموا روحهم ودماءهم في سبيل وطنهم» (كل الاقتباسات من حوار أجرته معه الزميلة رزان زيتونة، موقع ثروة، أكتوبر 2006). أبو فراس ينحدر من جيل جعل من الوطن مرة ومن الثورة مرة ومن الحزب مرة ومن الإيديولوجية مرة أيقونة مقدسة يتعبد لها المرء. كثيرون من هذا الجيل اكتشفوا أن تجارة الأيقونات رابحة جداً، وجنوا منها ثروات وأمجاداً طائلة. ليس فارس منهم، لكن تفكيره السياسي لا ينصب أية حواجز في وجه ممارسة كهذه. ما قد ينصب حواجز هو نزع الأيقونية عن الأوطان والإيديولوجيات والأديان والأحزاب والأشخاص، والتوظيف في حرمة الحياة الإنسانية والكرامة الإنسانية. لو كان للحياة وللكرامة حرمة لما سُجن فارس مراد 29 عاماً. خرج منها محني الظهر، متصلب العمود الفقري، رئتاه مضغوطتان وعنقه متيبس (قرر الطب أنه يعاني عجزاً يراوح بين 50 و70%). ولو كان للحياة اعتبار لما منع من السفر لتلقي علاج لمرض التهاب الفقار اللاصق (سبونديلوزيز)، لا تتوافر تقنيات ومؤسسات معالجته في سورية. هذا يعادل حكما بالإعدام بعد نحو 3 عقود سجناً. ***في الرابعة والعشرين، عضواً في المنظمة الشيوعية العربية التي تجمع بين الشيوعية والعروبة كما يدل اسمها وبين العمل المباشر ضد «المصالح الإمبريالية». فجرت المنظمة عبوة ناسفة في مركز تجاري أميركي في دمشق، راح ضحيته خطأ مواطن سوري. اعتقل 14 بالنتيجة هم جميع أعضاء المنظمة في سورية. خمسة أعدموا، وخمسة حكم عليهم بالسجن المؤبد، منهم فارس، و4 تقرر سجنهم لمدة 15 عاما فقط. وقتل أحد زملائهم وقت الاعتقال. يا لها من عدالة! فارس ليس حاقداً مع هذا كله. «هناك محاسبة إذا جاء وقت المحاسبة، لكن بدون حقد». العدالة نعم، لكن ليس الانتقام. الرجل يشعر بالمسؤولية عن مستقبل وطنه الذي لا يبدو أن أحداً فيه، خلا قلة عاجزة، شعر بالمسؤولية عنه.***فارس نفسه لا يلتزم بتفاؤليته التاريخية. حين يتكلم على سجيته يستطيع أن يقول: «حياتي باتت عدماً لا يرجى منه فائدة». وفيما ترك له العدم من حياة يثابر على التدخين رغم انضغاط رئتيه وتشنجهما.«لا شيء في السجن يفتقد. كل ما ذهب غير مأسوف عليه»، يضيف فارس الذي بارح محبسه وهو في الرابعة والخمسين. لكن في السجن كان فارس يفتقد أكثر من أي شيء آخر «المرأة ولمستها الحانية». مجيبا على سؤال في هذا الشأن، يقول: «ما يمنعني جدياً أن أبحث عن ارتباط بالمرأة الآن هو وضعي الصحي أولاً ووضعي المادي ثانياً. عندما أفكر بالارتباط أود أن أتمكن من أن نعيش حياة طبيعية، نذهب ونجيء، لدينا رغبات نلبيها لبعضنا. أنا ليست لدي القدرات الجسدية للقيام بهذه الواجبات، ومن ناحية ثانية إذا أحببت أن أعزمها على فنجان قهوة فليس معي ثمنه». كم هذا أليم؟ وكم هو مهين لبلدنا وجيلنا كله؟ ليس هناك ما يسوغ في هذه الدنيا، ولا في أي دنيا ممكنة، سجنك المديد يا فارس وضيق ذات يدك الشديد وعجزك الصحي ومنعك من السفر لتلقي العلاج وفقدك للحب. لا «المجتمع العربي الاشتراكي الموحد» ولا «الوطن»! أي وطن هذا يثابر على تدميرك بهذا الدأب منذ اعتقلت صيف عام 1975؟ لن يستعيد وطنك كرامته إلا حين يعتذر منك ذات يوم، ويقطع على نفسه عهدا ألا يعامل أبناءه أو أي إنسان بهذه الوحشية. إلى ذلك الحين السلام عليك يا أبا فراس!*كاتب سوري