بم يمكن أن نصف وجودنا السياسي والثقافي والاقتصادي والعلمي والسيكولوجي، في عالم اليوم، غير أنه وجود مُخلّع وبلا ركائز؟ يفترض المرء أننا راسخون وجوديا، لا تهز جبل وجودنا ريح، على نحو كان يفضل أن يقول المرحوم أبو عمار. لكن هذا ربما ينطبق على ماهيتنا أو هويتنا، على الثقافة والأرض والدين، لا على وجودنا في العالم وفي التاريخ.
أو هذا ما يبدو أننا نظنه دونما برهان، ولعل هذا الظن بأن وجودنا راسخ لا يتقلقل ولا يستنفد، يكمن وراء طيشنا واستهتارنا بالعدو وحلفائه. نشعر أن الله معنا، ورياح الأرض كلها لا يمكن أن تهز جبلنا الوجودي، خلافا للتلة الإسرائيلية المصطنعة. لكن في هذا التوكل الديني السلبي، المفصول عن أي «إعقال» وتمكين، ما يهدر حياة أجيال منا ويهدد جديا بتلاشينا وتبعثرنا. إن هويتنا بالذات تتعرض للتآكل بقدر ما تضعف عمليات التماهي المغذية لها. من يتماهى اليوم جديا وإيجابيا بالعروبة إن كان له الخيار؟ وما هي النماذج الجذابة، سياسيا وثقافيا وأخلاقيا، التي تعرضها تعبيرات العروبة السياسية، سلطات كانت أم منظمات أم أفرادا؟ إن هشاشتنا الوجودية المتمادية تفضي إلى تسرب النخر إلى صلب هويتنا، فلا يبقى منها غير اختلاف محض مفرغ من أي قيمة تحررية وإنسانية عامة. فإن كان لنا أن نقلب المسار ونقوي الهوية العربية فالأولوية لإصلاح وجودنا، وليس للمتاجرة بالعروبة وفلسطين في بازارات السياسة الإقليمية والدولية، وأول إصلاح الوجود إصلاح السياسة والدولة، أنسنتهما. فالسياسة التي يمكن تدير صراعا وجوديا مع إسرائيل الصهيونية ينبغي أن تكون مسترخية ومتحررة من القلق على وجودها هي، فلا تتوسل تنظيمات استثنائية لحكم مجتمعها، ولا تمنح نخبها لنفسها مرتبة وجودية تفوق مرتبة مواطنيها. إنها سياسة أمة المواطنين المتحررين لا سياسة الهوية، الانقسامية بطبيعتها، والتي ترتق فتوق الوجود بتمزيق الهوية الجامعة. هذه السياسة يمكن أن تسالم إسرائيل حينا، وقد تخوض معها مواجهات محسوبة حينا (إن فشلت، يدفع الثمن أصحاب القرار)، لكنها تتفادى مواجهة مفتوحة حتما؛ وهي لا تخشى المزايدة عليها لأن شرعيتها تستند إلى المواطنية لا إلى تسييس الهوية. ليس هناك وصفة بسيطة للتحول نحو سياسة كهذه، لكن أهم ما يحول دونها هو مصالح جزئية، لسلطات ومنظمات وجماعات... تتوسل الصراع مع إسرائيل لتعزيز نفوذها وتمديد أجلها. والإرادة السياسية المفتقدة عند الكلام على إصلاح العلاقات العربية هي ذاتها أول ما يفتقد عند الكلام على إصلاح الدولة والسياسة في بلداننا. هذا بينما تتوافر الإرادة هذه بسهولة للقمع وتحصين نظم الاستثناء. ترى، هل هناك ذرة جدية في خوض صراع كهذا بمجتمعات مقيدة تشلها قوانين وثقافة الطوارئ؟ هذا الوجود المخلخل، المعدوم الكثافة، يقلد إسرائيل من حيث يبدو أنه يقف في وجهها. فكما تحمي الدولة العبرية وجودها بالقوة، ومنها السلاح النووي، تحمي سلطاتنا نفسها بالقوة، بما فيها العنف الماحق ضد سكانها. وللأسف يظهر أكثر المثقفين، من يفترض أن يعوّل عليهم من أجل التوضيح وجلاء الإكراهات المفهومية والمنطقية التي لا يمكن الفوز في أي معركة عامة ضدها (منها مثلا أن الصراع الوجودي ليس صراعا عسكريا مباشرا وإلا انفتح على حرب مطلقة وسلاح نووي، ومنها مثلا أن الدين لا يمكن أن يكون دولة، ومنها أن الطارئ لا يجوز أن يكون أبديا، والجمهورية لا يصح أن تغدو ميراثا... فإن فرض ذلك كله قسرا انحلت العقول والمجتمعات وصار كل شيء جائزا، وهذا هو بالضبط «دستور» القوي)، يظهرون روح امتثال ونزوعا إلى التماهي التام بالقبيلة، وفي غير قليل من الأحيان عدوانية شرسة ضد أي جهد نقدي وتوضيحي. في الختام، ينبغي حتى لو قدرنا ألا نعمد إلى إنهاء إسرائيل بضربة ماحقة، يبدو أنها تسكن المخيلة العربية بلا منافس، بل أن نحجمها ونحتويها وندفعها إلى الانحلال والتفكك على نحو ما جرى للاتحاد السوفييتي في نهاية الحرب الباردة. فإذا أمكن التخلص من إسرائيل أو نزع صهيونيتها بعد قرن دون قطرة دم، فإن هذا مفضل على تدميرها الآن أو في أي وقت. وهو أكثر إنسانية من وجهة نظر مستقبلنا ومستقبل العالم. ومن شأن تمكيننا الوجودي أن يجعل الزمن في مصلحتنا، خلافا لما هي الحال الآن حيث يبدو أن كل يوم يمضي هو خسارة جديدة ومكسب يضاف إلى حساب إسرائيل. وكخلاصة عامة، فإن إصرارنا على الجمع بين صراع وجودي وصراع عسكري يخاض هنا والآن، أو إخفاقنا في التمييز بين الوجهين وبلورة سياسات تلبيهما معا (تجنب المواجهة العسكرية وبناء بلداننا) يفضي إلى حصائل عكسية تماما: المزيد من الهشاشة الوجودية في صفنا وتمكين عدونا المتفوق عسكريا من الفتك بنا، مع إظهار ذلك كدفاع مشروع ضد مشاريعنا الإبادية، فهل يعني ذلك أننا بلا عقل، أم أننا متواطئون مع عدونا؟ لكن هل من فرق بين الاثنين؟* كاتب سوري
مقالات
الصراع الوجودي والصراع العدمي (3-3)
29-01-2009