باراك أوباما والقوة الأميركية

نشر في 10-11-2008
آخر تحديث 10-11-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت من بين أول التحديات التي ستواجه الرئيس باراك أوباما تلك التأثيرات المترتبة على الأزمة المالية المستمرة، والتي دعت إلى التشكيك في مستقبل القوة الأميركية. في مقال نشرته صحيفة «فار إيست ايكونوميك ريفيو» يزعم الكاتب أن انهيار وول ستريت ينذر بتحول عالمي هائل: أو بداية انحدار القوة الأميركية. ويرى الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف أن الأزمة تشير إلى أن الزعامة العالمية الأميركية اقتربت من نهايتها. وأعلن الرئيس الفنزويلي هيوغو شافيز أن بكين الآن أصبحت أكثر استحقاقاً لمهمة زعامة العالم من نيويورك. ورغم ذلك فإن قيمة الدولار، رمز السلطة المالية الأميركية، ارتفعت ولم تنخفض. وكما لاحظ كينيث روغوف الأستاذ بجامعة هارفارد وكبير خبراء صندوق النقد الدولي سابقاً: «إنه لأمر يحمل في طياته مفارقة عجيبة، فرغم إخفاقنا الشديد، يرد الأجانب بضخ المزيد من الأموال إلينا. فهم ليسوا على يقين من المكان الذي ينبغي عليهم أن يتوجهوا إليه غير أميركا. ويبدو أنهم يحملون قدراً من الثقة في قدرتنا على حل مشاكلنا أعظم مما نتمتع به من ثقة في أنفسنا». من بين العبارات التي اعتدنا الاستماع إليها أن أميركا إذا عطست فهذا يعني أن العالم كله سوف يصاب بالبرد. وفي وقت أقرب عهداً زعم العديد من الناس أن التباطؤ الاقتصادي في أميركا يمكن فصله عن بقية العالم، وذلك بفضل صعود الصين ودول النفط. ولكن حين أصيبت الولايات المتحدة بعدوى الإنفلونزا المالية، انتقلت العدوى إلى آخرين. وسرعان ما تحول العديد من الزعماء الأجانب من الشماتة إلى الخوف- وإلى الأمان الذي تَـعِد به أذون خزانة الولايات المتحدة.

إن الأزمات كثيراً ما تدحض الحكمة التقليدية، وهذه الأزمة تؤكد أن القوة الكامنة في الاقتصاد الأميركي مازالت مثاراً للإعجاب. والحقيقة أن الأداء الضعيف في وول ستريت ومن جانب الجهات التنظيمية الأميركية قد كلف أميركا قدراً عظيماً من القوة الناعمة التي تتجسد في جاذبية نموذجها الاقتصادي، ولكن هذه الضربة ليس بالضرورة أن تكون قاتلة، إذا ما تمكنت الولايات المتحدة، خلافاً لما حدث في اليابان أثناء تسعينيات القرن العشرين، من امتصاص الخسائر والحد من الضرر. مازال المنتدى الاقتصادي العالمي (منتدى دافوس) يصنف اقتصاد الولايات المتحدة باعتباره الاقتصاد الأعظم قدرة على المنافسة على مستوى العالم، نظراً لمرونة سوق العمل، والتعليم العالي، والاستقرار السياسي، والانفتاح على الإبداع والتجديد.

أما التساؤل الأضخم فهو يتصل بمستقبل القوة الأميركية في الأمد البعيد. فقد أظهر تقرير جديد عن التوقعات لعام 2025 يتولى إعداده المجلس الوطني للاستخبارات في الولايات المتحدة أن الهيمنة الأميركية سوف «تتضاءل إلى حد كبير» وأن المجال الوحيد الذي سيشهد استمراراً للتفوق الأميركي- القوة العسكرية- سوف يشكل أهمية أقل في عالم المستقبل القائم على التنافس. وهنا لا ترتبط المسألة بالانحدار الأميركي بقدر ما ترتبط بصعود بقية العالم.

إن القوة تعتمد دوماً على السياق الذي يحتويها، وفي عالم اليوم أصبحت القوة موزعة وفقاً لنمط أشبه برقعة شطرنج معقدة تتألف من ثلاثة أسطح. على السطح الأعلى سنجد أن القوة العسكرية أحادية القطب إلى حد كبير، ومن المرجح أن تظل على هذه الحال لفترة من الزمن. ولكن على السطح الأوسط سنجد أن القوة الاقتصادية متعددة الأقطاب، وأن اللاعبين الرئيسيين هم الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان، والصين، وأن غيرهم من اللاعبين يكتسبون المزيد من الأهمية باضطراد.

أما الرقعة السفلية فهي تجسد عالم العلاقات الدولية التي تعبر الحدود وتقع خارج نطاق سيطرة الحكومات. وهذه الرقعة تضم لاعبين منتمين إلى فئات متنوعة، فنجد الصيارفة يحولون إلكترونياً مبالغ أضخم من أغلب الميزانيات الوطنية في العالم، كما سنجد الإرهابيين ينقلون الأسلحة، أو مبرمجي الحاسب الآلي المنحرفين وهم يعرقلون عمل شبكة الإنترنت. كما تشتمل هذه الرقعة السفلية على تحديات جديدة مثل الأوبئة وتغير المناخ. وعلى هذه الرقعة السفلية تتوزع القوى على نطاق واسع، ومن العبث أن نتحدث هناك عن أحادية القطبية، أو تعدد الأقطاب، أو الهيمنة. وحتى في أعقاب الأزمة المالية، فإن الوتيرة المتهورة التي يسير عليها التغير التكنولوجي من المرجح أن تستمر في دفع العولمة، ولكن التأثيرات السياسية سوف تختلف في عالم الدول القومية عنها في عالم الجهات الفاعلة غير التابعة لدول. وفي عالم السياسة بين الدول فإن العامل الأكثر أهمية سوف يكون استمرار «عودة آسيا». في عام 1750 كانت آسيا تحتوي على ثلاثة أخماس سكان العالم وتدير ثلاثة أخماس الناتج الاقتصادي العالمي. وبحلول عام 1900، بعد الثورة الصناعية في أوروبا وأميركا، انحدرت حصة آسيا في الناتج العالمي إلى خُـمس واحد فقط. ولكن بحلول عام 2040 فسوف تكون آسيا قد قطعت شوطاً طويلاً في طريقها إلى استرداد حصتها التاريخية.

إن صعود الصين والهند قد يخلق حالة من عدم الاستقرار، ولكن هذه المشكلة ليست بلا سابقة، ونستطيع أن نتعلم من التاريخ بشأن الكيفية التي قد نتمكن بها من خلال التخطيط السليم من التأثير على النواتج. فمنذ قرن من الزمان تعاملت بريطانيا مع صعود القوة الأميركية دون صراعات، ولكن فشل العالم في التحكم في صعود قوة ألمانيا كان سبباً في اندلاع حربين عالميتين مدمرتين. يتعين علينا أيضاً أن نتحكم في صعود الجهات الفاعلة من غير الدول. ففي عام 2001 نجحت مجموعة غير منتمية إلى دولة في قتل عدد من الأميركيين يتجاوز من قتلتهم حكومة اليابان في بيرل هاربور. وأي وباء قد ينتشر بواسطة الطيور أو المسافرين على الطائرات، فقد يقتل من البشر عدداً يتجاوز ضحايا الحرب العالمية الأولى أو الحرب العالمية الثانية. والمشاكل المرتبطة بتوزع وانتشار القوة (بعيداً عن الدول) قد يتبين أنها أشد صعوبة من تحولات القوة بين الدول. إن التحدي الذي يواجه باراك أوباما يتمثل في أن المزيد والمزيد من القضايا والمشاكل أصبحت خارج نطاق سيطرة حتى أعظم بلدان العالم قوة. ورغم أن أداء الولايات المتحدة يكون طيباً حين يتصل الأمر بالتدابير التقليدية للقوة، فإن هذه التدابير أصبحت فاشلة على نحو متزايد في إدراك واستيعاب الكثير مما يحدد معالم السياسة العالمية، والتي أصبحت بفضل العولمة وثورة المعلومات في تغير مستمر على النحو الذي يمنع الأميركيين من تحقيق غاياتهم الدولية بالعمل منفردين. على سبيل المثال، يشكل الاستقرار المالي الدولي أهمية كبرى بالنسبة للرخاء الأميركي، ولكن الولايات المتحدة تحتاج إلى تعاون الآخرين من أجل ضمان ذلك الاستقرار. وتغير مناخ العالم أيضاً سوف يؤثر على نوعية الحياة، ولكن الولايات المتحدة لن تتمكن من التعامل مع هذه المشكلة وحدها. وفي هذا العالم أصبحت الحدود صورية على نحو متزايد، حتى بات بوسع أي شيء أن يعبرها، بداية من المخدرات إلى الأمراض المعدية إلى الإرهاب. لقد بات لزاماً على أميركا أن تعمل على حشد التحالفات الدولية من أجل التعامل مع التهديدات والتحديات المشتركة. ما دامت أميركا صاحبة أضخم اقتصاد في العالم فسوف تستمر الزعامة الأميركية في تشكيل أهمية حاسمة بالنسبة للعالم أجمع. والمشكلة التي تواجهها القوة الأميركية في أعقاب الأزمة المالية ليست مشكلة انحدار، بل إن المشكلة تتلخص في إدراك حقيقة مفادها أن حتى أعظم بلدان العالم قوة تعجز عن تحقيق غاياتها دون مساعدة من الآخرين. ومما يدعو إلى التفاؤل أن باراك أوباما يدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك.

* جوزيف س. ناي | Joseph Samuel Nye، مساعد وزير دفاع الولايات المتحدة الأسبق، وأستاذ بجامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «قوى الزعامة».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top