Ad

إن جوهر مأساتنا الراهنة هو أننا جميعا مثل قوم موسى، وإننا محصورون بين سواطير الفراعنة وفتاوى الهامانات: أولئك يذبحوننا حتى نكفر، وهؤلاء يكفّروننا حتى نُذبح!

ضمن كتاب «المقاومة بالحيلة» لجيمس سكوت، ورد هذا المقتطف من تعليم مسيحيّ كان معداً للرقيق في الجنوب الأميركي قبل الحرب الأهلية:

س: أليس الخدم ملزمين بطاعة أسيادهم؟

ج: أجل، إنّ التوراة تنصح الخدم بأن يطيعوا أسيادهم وبأن يرضوهم في كل الأمور.

س: إذا كان السيد غير صالح، فهل للعبد أن يعصيه؟

ج: كلا. إن التوراة تقول: أيها الخدم، كونوا خاضعين لأسيادكم بكل خوف. لا للصالحين واللطفاء فقط، بل للفاسدين أيضا.

س: إذا عانى الخدم دون حق، فماذا يفعلون؟

ج: يجب أن يتحملوا ذلك بصبر.

في هذا المقطتف نلمح جريمة ترتدي ثياب القانون، ورغبة أرضية دونية تنتحل إرادة السماء، ونسمع في نبرته القاطعة هراء فجّاً يتلفّع ببلاغة مقدسة.

إنه آت من مكان وزمان بعيدين، لكننا نكاد نسمعه الآن بكل قوة وحيوية، يندلق بشكل فوري من أذهاننا إلى أسماعنا.

وهو عابر في صيغته الآنفة من حنجرة اليهودية إلى شفاه المسيحيّة، لكنه ينصبّ في آذاننا بصوت عربي فصيح متأسلم!

ألا يذكّرنا ذلك، حالا، بتلك النبرة الفصيحة التي تعدّد للمؤمن جميع موبقات ولي الأمر، ثم لا تنهيها بالشجب والدعوة إلى الثورة عليها، كما يتوقع كلّ حر وعاقل، بل بأمر المؤمن بإطاعة ذلك الوليّ السافل مهما فعل، قائلة له: «اسمَعْ وأطِعْ)؟!

لا يمكننا القول بأنّ متأبطي التوراة والإنجيل في أميركا، كانوا يمتحون من بئر تراثنا «البرمائي» المجيد، كما لا نستطيع القول بأن أهل القرآن قد قفزوا ذات ليلة مقمرة عبر المحيط، ليلتقطوا تلك اللقية الثمينة من أيدي أولئك المتأبطين.

لكننا نستطيع القول بأن الشياطين من كل جنس وفي كل زمان أو مكان، يستطيعون ارتداء الجبة وإطالة اللحية وانتحال الكلمة الإلهية، من أجل الوصول إلى مباهج الدنيا على أشلاء الدين... أي دين.

القرآن من أوله إلى آخره يعيد علينا قصة موسى وفرعون، عارضا لنا قطبي الخير والشر ممثلين بالحرية والطغيان، ومحرضاً لنا كبشر أحرار، على مقارعة الطغاة، لكننا ما أن ننتهي من قراءة دعاء الختمة حتى يباغتنا محتال أشعث فيجرنا من أرجلنا لكي نسجد باسم الله، لفرعون، انصياعاً لنبأ من وكالة أنباء تراث الاستبداد، وهو نبأ يمسح بثانية واحدة كل ما قرأه المؤمنون في الكتاب المجيد على مدى ألف وأربعمئة سنة!

«اسمع وأطِعْ»... حتى لو ضربك دون ذنب، حتى لو حرمك دون حق، حتى لو سجنك دون جرم، حتى لو سرق لقمتك أو قطع لسانك أو هتك عرضك، اسمع وأطع. دعه ينفتق تخمة من شواء «الوِزر» واشبع أنت من رائحة «الأجر»!

بالعبرية أو بالآرامية أو بالعربية... هنا أو هنالك أو هناك. لا فرق في مضامين الوصفة، ولا فرق بين أهلها، ولا فرق بين أهدافها.

إن جوهر مأساتنا الراهنة هو أننا جميعا مثل قوم موسى، وإننا محصورون بين سواطير الفراعنة وفتاوى الهامانات: أولئك يذبحوننا حتى نكفر، وهؤلاء يكفّروننا حتى نُذبح!

ولأننا لا ننهض لكي نسترد دنيانا من أولئك ولا نثور لكي نستنقذ ديننا من هؤلاء، فقد حق علينا بينهما طول العذاب، ولن نخرج من هذا التيه حتى نكون أهلا للعثور على إرادتنا الضائعة. ولا أمل لنا بأن ينقذ الله أنفسنا، إلا إذا آمنا بالله وبأنفسنا.

* شاعر عراقي