فرصة ذهبية مهدرة

نشر في 23-01-2009
آخر تحديث 23-01-2009 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت استخدمت مجموعة من العلماء الأوروبيين متعددي الجنسيات تقنيات الربط الجيني لإنتاج صنف غير عادي من الطماطم (البندورة). ويتميز هذا الصنف بقشرة أرجوانية قاتمة ولب داكن، ويحتوي على مستويات من مضادات الأكسدة أعلى بحوالي 200% من مثيلاتها في الطماطم غير المعدلة. وعند تغذية مجموعة من الفئران المعرضة بدرجة عالية للسرطان بهذه الطماطم نجحت في تمديد حياة الفئران بشكل ملحوظ. حظيت هذه الدراسات باهتمام واسع النطاق، ولكن هناك إنجاز على القدر نفسه من الأهمية في مجال التعديل الوراثي كان موضع تجاهل لعقد من الزمان تقريباً، ألا وهو ابتكار «الأرز الذهبي»، وهو عبارة عن مجموعة من أصناف متنوعة جديدة من الأرز المعزز بيولوجياً، أو المخصب بجينات تنتج الـ«بيتا كاروتين»، وهي المادة التي يُشكَل منها فيتامين (أ) الذي يتحول في الجسم تبعاً للحاجة إلى هيئته النشطة.

إن أغلب الأطباء في أميركا الشمالية وأوروبا لم ير قط حالة واحدة تعاني نقص فيتامين (أ) طيلة حياتهم المهنية. ولكن الوضع مختلف تمام الاختلاف في البلدان الفقيرة، حيث ينتشر نقص فيتامين (أ) كالوباء بين الفقراء، الذين تتألف وجباتهم بشكل أساسي من الأرز (الذي لا يحتوي على الـ«بيتا كاروتين» ولا على فيتامين أ)، أو غير ذلك من مصادر السعرات الحرارية الغنية بالكربوهيدرات ولكنها تفتقر إلى الفيتامينات. في البلدان النامية هناك ما يتراوح بين مئتي إلى ثلاثمئة مليون طفل في سن ما قبل المدرسة عُرضة لنقص فيتامين (أ)، وهو ما قد يكون مدمراً لصحة الأطفال بل وقد يكون قاتلاً. إذ إن نقص هذا الفيتامين يزيد من قابلية الإصابة بأنواع العدوى الشائعة بين الأطفال مثل الحصبة وأمراض الإسهال، وهو أيضاً المتسبب الأول في إصابة الأطفال بالعمى في البلدان النامية. ففي كل عام يصاب حوالي نصف مليون طفل بالعمى نتيجة لنقص فيتامين (أ)، وحوالي 70% منهم يتوفون في غضون سنة من فقدان البصر.

من الناحية النظرية، نستطيع ببساطة أن نكمل وجبات الأطفال بفيتامين (أ) على شكل كبسولات، أو إضافته إلى بعض المواد الغذائية الأساسية، تماماً كما نضيف اليود إلى ملح الطعام لمنع الإصابة بقصور الغدة الدرقية أو تضخمها. ومن المؤسف أن الموارد المطلوبة (مئات الملايين من الدولارات) غير متاحة، وكذا البنية الأساسية اللازمة للتوزيع.

وتقدم التكنولوجيا الحيوية حلاً أفضل وأرخص وأكثر تيسراً: وهو الأرز الذهبي الذي تحتوي حباته المعدلة وراثياً على الـ«بيتا كاروتين». والفكرة بسيطة، فرغم أن «بيتا كاروتين» لا يتم تخليقه طبيعياً في بذور نباتات الأرز، فإن الأجزاء الخضراء من النبات تصنعه. وباستخدام تقنيات ربط الجينات لتقديم الجينين المسؤولين عن هذه الإنزيمات يصبح في الإمكان إعادة توجيه المسار بحيث تصبح حبات الأرز قادرة على تخزين كميات علاجية من الـ«بيتا كاروتين».

إن الأرز الذهبي يتيح لنا إمكانية الإسهام في تعزيز صحة البشر ورفاهيتهم على نحو لا يقل نجاحاً عن اكتشاف وتوزيع لقاح شلل الأطفال. ومع استخدامه على نطاق واسع فمن الممكن أن ينقذ مئات الآلاف من أرواح البشر في كل عام، وأن يحسِّن من نوعية الحياة لملايين آخرين. ولكن أحد جوانب هذه القصة المشرقة يشوبه التكدير. فقد نجحت المعارضة المتعنتة من جانب مناهضي العلم، والناشطين في معاداة التكنولوجيا- حركة السلام الأخضر، وجماعة أصدقاء الأرض، وبضع جماعات أخرى- في حض المشرعين المجبولين بالفعل على النفور من المجازفة على تبني توجه حذر كان سبباً في عرقلة الموافقات.

الحقيقة أن قضية الأرز الذهبي ليس فيها على الإطلاق ما يستدعي استعراض كل حالة على حدة أو هذا الكم الهائل من البيروقراطية المترددة. وكما نشرت الجريدة البريطانية Nature (الطبيعة) في عام 1992، فهناك إجماع علمي واسع النطاق على أن «القوانين الفيزيائية والبيولوجية نفسها تحكم استجابة الكائنات الحية المعدلة بواسطة الأساليب الجزيئية والخلوية الحديثة كما تحكم أيضاً تلك المنتجة بالأساليب التقليدية... وعلى هذا فلا يوجد تمييز ملموس بين التعديل الوراثي للنباتات والكائنات الدقيقة بواسطة السبل التقليدية أو عن طريق التقنيات الجزيئية التي تعمل على تعديل الحمض النووي ونقل الجينات». ولكن من ناحية أخرى، ينبغي للتنظيمات الحكومية الخاصة بالأبحاث الميدانية التي تجُرى على النباتات أن تركز على السمات التي قد تكون مرتبطة بالمخاطر- التطفلية، وانتشار الأعشاب والسمية- بدلاً من التركيز على ما إذا كان أسلوب أو آخر من التلاعب الجيني قد استخدِم. بعد تسعة أعوام من ابتكاره، وعلى الرغم من إمكاناته الواسعة في خدمة الإنسانية- والاحتمالات التي تكاد تكون معدومة فيما يتصل بقدرته على إلحاق الضرر بصحة البشر أو البيئة- فمايزال الأرز الذهبي محاطاً بالبيروقراطية على نحو لا يبشر بنهاية قريبة لكل هذا.

وعلى النقيض من ذلك فإن النباتات التي أنشئت بأساليب أقل دقة مثل تقنيات التهجين أو إحداث الطفرات لا تخضع عموماً لأي تدقيق أو متطلبات من جانب الحكومة (أو معارضة من جانب الناشطين) على الإطلاق. وينطبق هذا حتى على العديد من أنواع النباتات الجديدة التي نتجت عن «التهجين بين أنواع مختلفة» عن طريق نقل الجينات من نوع أو جنس إلى آخر- على نحو يتجاوز ما كان يعتبر فيما مضى حدوداً للتكاثر الطبيعي.

في شهر أكتوبر الماضي، أعلنت جوديث رودان رئيس مؤسسة «روكفلر» أن منظمتها ستقدم التمويل اللازم للمعهد الدولي لبحوث الأرز لرعاية الأرز الذهبي عن طريق حث عمليات الموافقة التنظيمية في بنجلاديش، والهند، وإندونيسيا، والفلبين. وهذه أنباء طيبة، ولكن الأمر يتطلب في الحقيقة إصلاحات قوية متعددة الأوجه للعملية التنظيمية، حتى تتوفر فرصة النجاح لكل ابتكارات البناء الوراثي الجديدة. في مقالة افتتاحية لعدد مجلة العلوم، الصادر في شهر أبريل، كتبت نينا فيدوروف، وهي واحدة من علماء الوراثة البارزين التي تشغل منصب كبيرة المستشارين العلميين لوزيرة خارجية الولايات المتحدة كوندوليزا رايس: «إن الثورة الخضراء الجديدة تتطلب التزاماً عالمياً بإنشاء بنية أساسية زراعية حديثة في كل مكان، وتوفير الاستثمار الكافي في التدريب والمختبرات الحديثة، والتقدم نحو توجهات تنظيمية مبسطة تتسم بحسن الاستجابة لأدلة السلامة المتراكمة».

بيد أن قصة الأرز الذهبي تشير بوضوح إلى أننا لم نكتسب بعد القدر اللازم من الإرادة والحكمة لتحقيق تلك الغايات.

* هنري ميللر | Henry I. Miller ، طبيب وزميل معهد «هووفر»، ومسؤول بارز سابق لدى المعاهد القومية الأميركية للصحة وإدارة الأغذية والعقاقير

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top