المياه السرية 1
![زاهر الغافري](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1462211981272872400/1462211991000/1280x960.jpg)
لكن لنعد إلى غوركي وتيشخوف، من بين المراسلات الفاتنة التي قرأتها، تبرز على وجه الخصوص تلك التي جمعت بين هذين الكاتبين الكبيرين، (ظهرت لأول مرة بالعربية عام 1953 بترجمة جلال فاروق الشريف)، وبعيداً عن كون هذه المراسلات تحمل قيمة تاريخية واجتماعية، لحقبة القياصرة الروس ولكتّاب ومثقفي تلك الحقبة (تمتد هذه المراسلات من عام 1898 حتى 1903 أي قبيل وفاة تيشخوف بسنة واحدة) بعيداً عن هذا، تسطع تلك الاسلوبية الصريحة في الكتابة عن الذات وعن هواجس وأفكار وتململ مشترك بين الكاتبين. بدأت هذه المكاتبات حينما كان مكسيم غوركي في بداياته الادبية، بينما كان تيشخوف قد قفز قفزته الكبرى بأعماله التي خلدته سواء كانت في القصة او المسرح، منها: طائر النورس، الخال فانيا، الشقيقات الثلاث... الخ، كان غوركي أشبه بالتلميذ بالنسبة الى تيشخوف ويكن له احتراماً وتقديراً عاليين، هو الذي كان حديث العهد بالكتابة كما ذكرنا.يكتب غوركي أولى رسائله عام 1898 «بصريح العبارة أود ان أعرب لك عن المحبة الحارة، الصريحة التي اغذوها لك في نفسي منذ الطفولة... كم من لحظات رائعة عشتها في كتبك، وكم أهرقت فوقها من دموع، كنت أغدو كالذئب المسعور الذي أطبق عليه الفخ، ثم لا ألبث أن أضحك طويلاً وقد غمرني الأسى»، لكن علاقة غوركي بتيشخوف ستتحول فيما بعد، سواء عبر المراسلة أو اللقاءات التي ستجمعهما، إلى نوع من الندّية والأخوّة الابداعية دون ان تفتقر بالطبع إلى الاحترام والنبل عند كليهما. سأفتح هنا قوساً كبيراً للقول إن مراسلات تيشخوف - غوركي هذه تكشف عن ضحالة وضيق أفق المقاربة - خصوصاً لأعمال غوركي - في الأدبيات اليسارية العربية في الخمسينيات والستينيات حتى مطلع السبعينيات من القرن الفائت، إذ اعتبرت أعماله على الدوام، أعمالاً «نضالية» بحصر الكلمة، وكأنما كان غوركي الناطق الرسمي بلسان حزب يقود الجماهير إلى الخلاص، والحال أن الصورة ليست هكذا بالمرة، أو على الأقل لم تكن بهذه الفجاجة التي قدمت الينا. كان غوركي كما تظهر رسائله، يكن احتقاراً واضحاً للسطحية والمباشرة في الأدب والفن عموماً، والجدانوفية، بواقعيتها الاشتراكية التي هللت لها الأنتلجنسيا العربية زمناً باعتبارها وصفة جاهزة من أدب الاتحاد السوفييتي آنذاك، حتى أن بعض هذه النخب نسيت «غيمة في بنطلون» لـ مايا كوفسكي مكتفية بالوصفة الجاهزة، إياها، من دون أن تتساءل أبداً، لمَ انتحر الرجل؟صحيح أن غوركي لمن عرف سيرته الحياتية، سُجن واضطر الى الإقامة الاجبارية ونفي إلى أمكنة عدة في روسيا الشاسعة، لكنه لم يذهب إلى اعتبار الأدب وصفة جاهزة تقدم للجماهير. ولنا وقفة أخرى مع هذه المراسلات.