لا يمكن إلا أن يشعر المرء بالدهشة والأسف حيال الحملات المصرية المتوترة على «حزب الله»، ومزاعم مؤامرة تتهدد الأمن القومي المصري على يد شبكة مفترضة بناها الحزب اللبناني على الأراضي المصرية. ليس من حق «حزب الله» أو غيره أن يمارس أنشطة تتعارض مع السيادة المصرية. وليس لـ«حزب الله» أو لغيره أن يقرر ما هو الصحيح مصريا. وحدهم المصريون أصحاب الشأن في ذلك. مع ذلك مؤسفة هذه الحملات الرسمية المصرية، لقد سيّست أمرا كان يكفي إطلاق يد القضاء المصري فيه، وكبّرت شيئا صغيرا، فكان أن صغّرت مصر وقللت من اعتبارها.
والحال، يبدو لنا أن مصر تعاني داء عضالا وقديما بعض الشيء، هو السبب الراجح لارتكاب أخطاء تنال من مصر وتصغّرها في عين الناس والدول حولها. الداء هذا حصيلة تضافر ثلاث سلطات مستبدة تنيخ بثقلها على صدر مصر منذ ثلاثة عقود، فتخصم من استقلالها وسيادتها وتضيق من آفاق تطورها. أولاها هي النظام الحاكم في مصر، والذي لطالما عامل شعبه بقسوة واحتقار. إن تطبيع العنف في التعامل مع المحتجين على سياساته أو مع عموم المصريين المحرومين من الحماية، والصيت الشنيع للأجهزة الأمنية المصرية أمور معروفة جيدا في مصر قبل غيرها. وفساد نخبة النظام ومحاسيبه أمر معروف بدوره. وفوق ذلك، يبدو أن النظام يعدّ جمال مبارك، نجل الرئيس الطاعن في السن، للرئاسة وريثا لأبيه. الاستبداد المسكون بهاجس الخلود يحتاط لنفسه فيجتهد حتى للتحايل على الموت، لكن مصر سوف تتضاءل أكثر إن ورثها جمال مبارك.السلطة الاستبدادية الثانية هي سلطة الهيمنة الأميركية... منذ توقيع كامب ديفيد والصلح المصري الإسرائيلي تمحورت السياسة الخارجية المصرية حول الولاء للولايات المتحدة والسلام مع إسرائيل، وبدل أن يحرس السلام مصر تمركزت سياستها حول حراسة السلام، ولم تعد لمصر سياسة مستقلة، ولو لأن التزامها بمعاهدتها مع إسرائيل يتفوق على أي التزامات أخرى لها حسب نص المعاهدة ذاتها. هذا تقزيم لمصر، يردها دولة عادية مثل غيرها، فاقدة للمبادرة المستقلة، وعاجزة عن الاعتراض على القوى المهيمنة في المنطقة أي الولايات المتحدة، وبالتبعية إسرائيل. ولعل سبب الحساسية المفرطة والمبالغ فيها حيال شبكة «حزب الله» المزعومة هو الشعور الذي لا يطاق بالعجز بسبب التقييد الأميركي الإسرائيلي لمصر. السلطة الثالثة هي سلطة الإسلاميين في المجتمع المصري والنموذج الاجتماعي والثقافي الانعزالي الذي يحملونه... هذه السلطة خصم للنظام وخصم للأميركيين والإسرائيليين لكنها ليست حليفا للحرية. إنها محافظة ومتشددة اجتماعيا، وتثير تحفظ أو خوف قطاع من المجتمع المصري ليس قليلا، يشمل جميع الأقباط وأكثرية المثقفين المصريين وقطاعا من الطبقة الوسطى المصرية. ولدى الإسلاميين قانون جاهز للتطبيق هو «الشريعة الإسلامية»، ما ينزع سلطة التشريع من يد البرلمان. وهم يعممون نموذجا اجتماعيا يقوم على الفصل بين الجنسين وترجيح حصر النساء في أعمال بعينها أو في بيوتهن. والأرجح أن الرقابة على الثقافة سوف تكون أشد، ما ينذر بهجرة المثقفين والكفاءات من البلد أن دان الحكم للإسلاميين. ويسهم الإسلاميون في سد آفاق مصر لأنهم البديل الأقوى للنظام، الأمر الذي يجعل «النظام هو الحل» في عين قسم من المصريين، فضلا عن قوى دولية نافذة. تحت وطأة ثلاث سلطات كهذه، كيف يمكن لمصر ألا تكون مريضة! في عصر جمال عبدالناصر كانت مصر تعاني الاستبداد، ودرجة من التقييد الثقافي، لكنها كانت دولة سيدة مستقلة ومجتمعها متفتح بقدر لا بأس به (من أفضال الحركة الوطنية المصرية في طورها الليبرالي بعد ثورة 1919). وفي زمن أنور السادات تراجع الاستبداد الحكومي، لكن رهنت سيادة البلاد للأميركيين، وحاز الإسلاميون بتشجيع من نظامه في البداية نفوذا اجتماعيا وسياسيا مهما، ذهب الرجل في النهاية ضحية له. أما في عهد مبارك الحالي فقد وقعت مصر تحت وطأة السلطات الثلاث معا، ودام العهد زمنا طويلا، يعادل حتى يومنا مجموع ما حكم عبد الناصر (18 عاما) والسادات (11 عاما). وهذا خانق. فالتغيير حاجة حيوية للمجتمعات، قبل أن يكون مطلبا كماليا لأي مجموعات اجتماعية. المجتمعات التي تتبدل أطقمها السياسية بين حين وآخر تمنح نفسها فرصة اختبار جديد للعالم، فتتجدد وتتنشط. هذا يصح حتى على بلد ألف تبدل أطقمه السياسية مثل أميركا، وهو من باب أولى أصح على مصر التي لم تألف هذا التبدل. مقيدة سياسيا بنظام مستبد وشائخ، وسياديا بهيمنة أميركية ومعاهدة تطلق يد إسرائيل وتغل يدها، واجتماعيا وروحيا بأصولية مجتاحة، لم يعد من سبيل أمام مصر سوى مزيد من التصاغر. والتصاغر هو ما يكمن خلف التهويل المخجل من شأن مجموعات صغيرة (ينبغي تفكيكها ومعاقبة المسؤولين عنها) تستهدف أمن مصر القومي وسيادتها واستقرارها! مصر أكبر من ذلك... أو هذا ما ينبغي. * كاتب سوري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
من يصغّر مصر الكبيرة؟
23-04-2009