بين أن نكون بلداناً طبيعية، تحكمنا أنظمة أو سلطات طبيعية؛ وأن نكون محكومين تتحكم في رقابنا ورقاب بلداننا أنظمة سلطوية استبدادية، بون شاسع، يتحدد على تخومه إمكان تحولنا إلى دول طبيعية، بمعنى استكمال الدولة أو الدول لمسيرتها وسيرورتها وصيرورتها دولة/أمة في الحالة الأولى، وتحققات التحول إلى نظام بوليسي «استثنائي» في الحالة الثانية.

Ad

ليس هناك من شعب أو أمة ترفض أن تتحول حياتها إلى بداهة الطبيعة، لترفض بالتالي التماهي مع حكامها «الاستثنائيين»؛ «استثنائية» استنسابية أحياناً، وشمولية في أحايين كثيرة، وإزاء كل شيء؛ من ممارسة السلطة إلى ممارسة الحياة، إلى كل ممارسة تفرضها طبائع الحياة الكاملة؛ المكتملة في وطن أو في دولة مكتملة.

الطبيعية هنا نقيض «الاستثناء»؛ الحاكم، الحكومة، السلطة، القانون، القضاء والأخلاقيات والقيم؛ رفض لكل «استثنائية» تستجيرها السلطة الطارئة، سلطة «الاستثناء» وعقيدتها واعتقاداتها الزائفة، وأوهامها بخلود السلطة، أو ديمومتها على الأقل، تلك الديمومة التي تتيح لها تحقيق أحلامها وطموحاتها هي، من دون غيرها من الناس المحكومين لطبيعية مفترضة، افتقدت وتفتقد مقوماتها؛ جراء «استثنائية» شرسة، همجية وسمت وتسم عنف السلطة الفاقدة كل شرعية، عبر افتقادها طبيعة الشرعية، كما الشرعية الطبيعية.

تحويل الدولة إلى مجموعة من الأجهزة، الخاضعة لسلطة «استثنائية»؛ لم يبقِ لحزب السلطة (أو لأحزابها) سوى هوامش لا تذكر، وضعته على الرف لتتباهى فيه السلطة بـ«شعر ابنة خالتها»، حيث لا سلطة للحزب على السلطة، بينما السلطة «الاستثنائية» كلها تمارس سطوتها وسلطانها على الحزب الذي أمسى مفتقداً هيبة القيادة، مستبدلاً إياها بهيبة الأجهزة.

«استثنائية» الأجهزة، نابع من كونه ناتج وضع «استثنائي»، ووليد سلطة «استثنائية»، كرست وتكرس دوراً «استثنائيا» لذاتها، ولكل ما ومَن يتماهى معها من «تمؤسسات» ما يوازيها من سلطات بطركية في مجتمع إحدى سماته الأبرز «الاستثنائية البطركية» بامتياز، تلك التي باتت تمثلها قمة أو قمم الهيمنة السلطوية، بدءاً من تأميمها السياسة وصولاً إلى تأميم الاقتصاد والتجارة لمصلحة الذات وللأقرباء المتنفذين والمحظوظين، وحتى تأمين المجتمع، وضمان عدم خروجه من أغلال وقيود «استثنائية» السلطة المؤبدة هيمنتها بالقوة، وبالقهر وبالغلبة.

وإذا كانت «الديمقراطية الليبرالية» أو «الديمقراطية التوافقية» واقعات غير واقعية، بل غير حقيقية؛ واقعات افتراضية في مجتمعات تقترب من كونها افتراضية، أكثر من كونها واقعية أو طبيعية، فإنه وفي أبرز ما يمكن البحث عنه ولا نجده، هي تلك «الديمقراطية المغدورة»: «ديمقراطية الاستثناء» المفصّلة على قياس حكم «الاستثناء». فأي مجتمع مدني يمكن أن ينشأ أو ينتج معانيه أو مبانيه في ظل مثل هذا الحكم، المعمم استثنائيته؛ وكأنها سمة نظام يخضع للنظام؛ نظام الدول والمجتمعات والأوطان والدول، فيما هو خارج النظام؛ شمولية «استثنائية» تتغذى من بيروقراطية سلطة استبدادية، تغذي هي الأخرى «استثنائية» الأجهزة التي أمست تشكل القاعدة الاجتماعية والأمنية والسياسية للنظام.

المحورة «الاستثنائية» حول الذات، أنتجت محورة موازية حول اللغة المستخدمة، ومنها انتقلت إلى كل ما يصدر عن النظام، وبالتالي صارت السلطة هي المحور- المركز الذي يتعالى عن كل ما ومَن حوله: بشراً أو جماداً، أقوالاً أو أفعالاً؛ ذلك أن التعالي ناتج «استثنائية» المحورة السلطوية المتعالية بدورها على أنساق الأنظمة /الحدود /الدول والأوطان كلها.

النزوع الامبراطوري، القطبية الأحادية، الواحدية، السلطة الشمولية، أنظمة «الاستثناء»، ولاية الفقيه، دكتاتورية البروليتاريا، الدولة الدينية، سلطة الفقهاء... إلخ من تسميات الإفشاء التمحوري للغة، أو التمركز «الاستثنائي» للذات «الاستثنائية»، هذه كلها بمنزلة شيفرة «كود» لتمركز هيمني أو لهيمنة ممركزة، تُعلي من شأن الذات في مواجهة الموضوع، السلطة في مواجهة الدولة، آليات استبداد تقويضية في مواجهة المجتمع، أو آليات دكتاتورية إخضاعية في مواجهة الشعب/الأمة. ذلك أن «الاستثنائية» هنا لم تعد في مواجهة الطبيعية/ البديهية، بل في مواجهة كل إمكانية بالاستقرار والسلام والأمان في ظل سوية فردية وجماعية ومجتمعية وسياسية؛ وهذه كلها أقانيم انسحقت أو تنسحق، أو بالأحرى تبغي انسحاقها داخل تلك «الاستثنائية» المظللة هيمنتها وسلطاتها بلغة التكاذب المتناسلة من محورة ذاتها في قلب السلطة، وفي إبقاء ذاتها متعالية بعيداً في طبقاتها العليا؛ «الاستثنائية» طبيعة وطبعاً!.

السؤال البديهي هنا... كيف الخروج من دائرة «الاستثناء»؟ التمرد على السلطة لمصلحة الدولة ونزعاتها، والخروج على «مجتمعات» «الاستثناء» الأبوية لمصلحة مجتمع الذات الجمعية أو الذوات الفاعلة، الحرة، المدركة استقلالها، رغم كل قيود التبعية والتفنن القمعي التي تجيدها أنظمة «الاستثناء» المحلية منها.. والإقليمية والدولية.

* كاتب فلسطيني