نحو تنوير عربي جديد 1
مصطلح «التنوير» الآن من أكثر الألفاظ العربية تداولاً منذ عقدين من الزمان، بعد أن ظهر المد الإسلامي وانتشر في الثقافة والإعلام والتعليم والحياة العامة. وروّجت له الاتجاهات «العلمانية» مستقلة عن الدول أو بتأييد منها للوقوف في مواجهة التيار الإسلامي متهمة إياه بالظلامية.
وعادة ما يوصف بالعربي وليس بالإسلامي، قراءة للماضي في الحاضر، وإسقاطاً من الحاضر على الماضي، فمنذ فجر النهضة العربية، والعرب يعيشون عصر تنوير عربىاً، ويحنون بعد انتكاسة التنوير الأول إلى تنوير عربي جديد.ولم ينج الإسلام أيضاً والتيارات الإسلامية من استعمال اللفظ مع تعديل في الاشتقاق من «تنوير» إلى «مستنير»، فالإسلام المستنير هو الإسلام الإصلاحي الذي يحاول إحياء الإصلاح القديم ودفعه خطوة نحو الأمام في خطاب ثالث يجمع بين الخطاب السلفي التقليدي والخطاب العلماني الغربي.يقبل الحوار مع الطرفين، ويشارك في قيم التنوير التي تمثلها المعتزلة والفلاسفة والعلماء وفلاسفة التنوير في الغرب، خصوصاً في فرنسا في القرن الثامن عشر ومعرفة العرب بها بعد تقديمهم في مصر والشام منذ رفاعة الطهطاوي.ومع ذلك يظل لفظ «التنوير» لفظاً مرتبطا بالغرب، بالفلسفة الغربية خصوصاً في القرن الثامن عشر، عصر الثورة الفرنسية. ومازال أشهر فلاسفة التنوير روسو، وفولتير، ومونتسيكيو، ودالبير، ودويدرو، وتيار «دائرة المعارف الفلسفية» في فرنسا وفي ألمانيا، هردر وكانط ولسنج وفشته، وفي إنكلترا دعاة الدين الطبيعي، وفي أميركا توماس بين، وفي إيطاليا روزميني.وبالرغم من أن التنوير موجود في كل حضارة، فإن التنوير الغربي الحديث هو الذي غلب على الأذهان، فاحتكر الحاضر الماضي وطغى عليه. إذ يمثل كونفوشيوس في الصين حركة تنويرية في الدين الصيني القديم، قراءة أخلاقية إنسانية اجتماعية لكتاب «التغيرات». والبوذية اتجاه تنويري في الهندوكية القديمة تتجاوز العقائد والطقوس وتعدد الآلهة إلى الدين الروحي الخالص. والفلاسفة اليونان سقراط وأرسطو وأفلاطون يمثلون التنوير العقلاني اليوناني في مواجهة الأساطير اليونانية وحكم الطغاة. ويمثل عصر بركليس في التاريخ اليوناني عصراً تنويرياً. والإسلام دين تنويري يقوم على العقل، ويؤكد حرية الإنسان ومسؤوليته والعدالة الاجتماعية والمساواة، وقدرة الإنسان على السيطرة على قوانين الطبيعة بعد اليهودية الاختيارية الاصطفائية والمسيحية القلبية المخلصية.والرشدية اللاتينية في العصر الوسيط المتأخر تمثل حركة تنوير ضد الكنيسة والدولة والإقطاع، فالتنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر ما هو إلا مرحلة من مراحل التنوير البشري الذي يميز كل حضارة، وكأن كل حضارة تمر ضرورة بحركة تنوير في مقابل الاتجاه المحافظ. وعادة ما يطلق على التنوير صفة العربي أكثر من الإسلامي بالرغم من أن وصف الفكر الحديث يكون على التبادل بين الصفتين، الفكر العربي أو الفكر الإسلامي. فالأفغاني ومحمد إقبال وأحمد خان وأبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي من المصلحين الإسلاميين، وإن لم يكونوا عرباً. وشبلي شميل، وفرح أنطون، وأديب اسحق، وسلامة موسى، والبستاني، واليازجي، وزيدان وحملة التنوير من المهاجرين الشوام إلى بر مصر عرب، وإن لم يكونوا مسلمين ديناً. فالإسلام ثقافة جميع العرب، مسلمين ومسيحيين. ولا يعني التأسيس هنا التأسيس الفلسفي بالضرورة، فالخطاب العربي المعاصر حامل لواء التنوير مازال خطاباً ثقافياً عاماً خالياً من الأحكام الفلسفىة، مصطلحاً وموضوعاً ومنهجاً. ويضم الخطاب الثقافي العام والتاريخي والأدبي والسياسي والقانوني والاجتماعي والديني العام، لذلك ارتبط التنوير بهذه المجالات كلها، ودخل فيه الأفغاني ومحمد عبده من الإصلاح الديني، والطهطاوي وخير الدين التونسي من الإصلاح السياسي لبناء الدولة الحديثة، وشبلي شميل وفرح أنطون من أجل إعادة بناء الموقف من الطبيعة على أساس علمي.اتسم التنوير العربي بالتنوع والشمول، وتعددت النماذج على مدى ثلاثة قرون في التيارات الرئيسية الثلاثة في الفكر العربي المعاصر، الإصلاح الديني، والسياسي الليبرالي، والعلمي العلماني، وبالرغم من هذا التنوع والشمول، فإنه يخضع لبنية واحدة، وتنطبق عليه أحكام واحدة، وهذا هو معنى «التأسيس» أي البحث عن الجذور المشتركة للتنوير العربي بتياراته كلها وعلى مدى أجياله.ويضم التنوير العربي مساحة زمنية تتجاوز القرنين من الزمان، القرن الماضي وهذا القرن الذي انقضى، التاسع عشر والعشرون. ويتزاحم فيها التاريخان الميلادي والهجري. فالفكر العربي هو جماع الوافد والموروث، ما يفد من الغرب الحديث وما يأتي من التراث القديم.ويتبادل على الفكر الوصفان، الحديث والمعاصر، فهو الفكر العربي الحديث الذي يضم قرنين. وهو أيضاً الفكر العربي المعاصر الذي قد يشير إلى القرن العشرين فقط من دون تحديد زمني دقيق للوصفين، ولما كانت جذور المعاصر في الحديث، وكان الفكر العربي المعاصر امتداداً للفكر العربي الحديث استمراراً أو انقطاعاً، تواصلاً أم ردّة فإن التنوير العربي يضم التجربتين معاً، وإذا كان الجيل يمثل أربعين عاماً، فإن التنوير العربي قد حملته خمسة أجيال على الأقل في الفكر العربي الحديث والمعاصر.ويصعب التمييز في هذه المساحة الزمنية بين الفكر والواقع، بين الفلسفة والسياسة، بين الموضع والموقف، بين النظر والعمل، فالباحث جزء من الموضوع، يحمل هموم الفكر والوطن، وجزء من حركة التحرر العربي وأحد روافد التنوير العربي الإسلامي. كما أنه يصعب التمييز بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين التقرير الخالص وبعض الأمنيات، وصف ما هو كائن استسلام وعجز وإحباط وتشاؤم، والحلم بما ينبغي أن يكون طوباوية وأحلام يقظة، والتنوير العربي بين الاثنين يتجاوز ما هو كائن من دون الإغراق في ما ينبغي أن يكون.وتتعدد المناهج في تناول الموضوع، إذ يمكن استعمال المنهج التاريخي النقدي الذي يقوم بعرض نشأة التنوير العربي وتطوره وتموجاته وجدليته. ويعتمد على أكبر قدر ممكن من الإحالات إلى المصادر الرئيسية والمراجع الأساسية، النصوص والدراسات لإعطاء أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الموضوع بالرغم من توافرها، بل وتكرارها، من دراسة إلى أخرى على مدى أكثر من نصف قرن، يستعرض فيه الباحث قدرته على التجميع والحشد للتواريخ وأسماء الأعلام ومؤلفاتهم، ويفيد المبتدئين وصغار الباحثين.ويمكن الاعتماد على منهج تحليلي فكري خالص يقرأ ما بين السطور، ويتحول من المعلومات إلى العمل، ومن التاريخ إلى البنية، ومن المعلوم إلى المجهول، ومن الواقع إلى الفكر، ومن الدال إلى الدلالة. ويحاول أن يستبطن الأمور بناء على تجربة حية تتكشف فيها ماهية التنوير، فالموضوع يظهر من خلال الذات، والتجربة الجماعية، الحضارية والتاريخية تتكشف من خلال التجربة الفردية والموقف الحياتي المشترك، وهو ما يعرف باسم الظاهريات، فلسفة ومنهجاً.والتنوير العربي كمصطلح هو صورة فنية أثيرة في الثقافة العربية الإسلامية، مشتقة من لفظ النور التي منها آيات النور الشهيرة «نور على نور»، قبل أن يشير إلى التنوير الغربي، لذلك يمكن الحديث عن فجر التنوير العربي وغسقه، وظهره وضحاه؛ استكمالاً للصورة. وقد تكون الصورة إحدى تجليات الموضوع في الذات. لذلك كانت لغة التصوير الفني أبلغ في الإقناع والتأثير والإيحاء من اللغة العقلية، الرياضية أو المنطقية المجردة أو اللغة العينية الحسية الملموسة.* كاتب ومفكر مصري