كل هذا الهدر يندرج تحت هدر إنسانية الإنسان؛ والاعتراف بحقوقه وكيانه يأتي أولا وقبل أي حديث عن الديمقراطية والتنمية، إذ لا قيمة لهما دون التركيز على الإنسان كمحور أساسي، فبينما نتشدق نحن بالديمقراطية ونتفاخر نتجاهل أننا نركز على الوسيلة وننسى الغاية... وأننا ننشغل بالطريق ونضيع الهدف!
تذكرني حال البلد بتشخيص الدكتور مصطفى حجازي لحالة الإنسان المهدور في بلاد الهدر، إذ يتجسد الهدر في هدر الوقت والفكر والوعي والإبداع والطاقات والمال والموارد والانتماء وحقوق المواطنة... وحديث الهدر هذا هو حديث مؤلم وذو شجون، فهو يترسخ في تفاقم الأزمات السياسية على حساب المشاريع التنموية، وفي غياب العقلية الاستراتيجية واستشراف المستقبل، وفي ضعف القرار السياسي وفشله في تدبر حال البلد، وفي استفحال البيروقراطية والواسطة والمحسوبية، وفي تفويت الفرص الذهبية للفورة النفطية في الماضي القريب، وفي تقهقر الأحوال على جميع المستويات التنموية منها والاجتماعية والتعليمية والصحية والاقتصادية والسياسية والرياضية والفنية. ويُرجِع حجازي أسباب الهدر إلى الاستبداد والعصبيات والأصوليات، حيث يستخدم في ذلك المنهج الخلدوني في دراسة العصبية كمعيق أساسي لعملية التنمية، ذلك لأنها (أي العصبية) أحادية الفكر، ولا تقبل بالتنوع والتعدد، ولا تعترف بالآخر المختلف، وحيث تتجذر العصبيات «سواء العائلية أو القبلية أو الطائفية أو المذهبية» في المجتمع تترسخ «ثقافة الولاء» المدمرة على حساب «ثقافة الإنجاز» التي تبني المستقبل والوطن، فتهدر المؤسسات لتتحول، كما هو حاصل، إلى صراع على النفوذ والسلطة والمال «فتتطاحن العصبيات على زيادة حصتها من الغنيمة، وتوسيع رقعتها من الكلأ والماء». والهدر الأخطر حسب د. حجازي هو هدر الفكر الذي «يجعل المجتمع جثة هامدة وبالتالي عديم القدرة على مقاومة الاستبداد والعصبيات واستفحالهما». وحين يهدر الفكر الحر والوعي والمعرفة يعشش الاستبداد وتنمو العصبية التي تلغي وتدمر مفهوم الوطن والمواطنة، والتي قد تهدر هي الأخرى وتصبح منّة تُسحب وتُعطى حسب المزاج والتبعية والطاعة والولاء! والهدر العلمي هو جزء من الهدر الفكري، حيث تهاجر الأدمغة إلى حيث تُقدَّر وتُكرَّم، وتبقى العقول الملقنة محدودة التفكير ثابتة وجامدة وآسنة لا تستطيع بفكرها الماضوي تجاوز الحاضر (فتجاوزه بدعة وضلال) ليصيب المجتمع الشلل والتيبس والتكلس من كل حدب وصوب. كل هذا الهدر يندرج تحت هدر إنسانية الإنسان؛ والاعتراف بحقوقه وكيانه يأتي أولا وقبل أي حديث عن الديمقراطية والتنمية، إذ لا قيمة لهما دون التركيز على الإنسان كمحور أساسي، فبينما نتشدق نحن بالديمقراطية ونتفاخر نتجاهل أننا نركز على الوسيلة وننسى الغاية... وأننا ننشغل بالطريق ونضيع الهدف!كم هو طويل نفق الهدر المظلم... نسير ونسير ونسير على أمل ظهور النور في آخره... الطريق موحش وبوصلتنا معطلة... مهدورون نحن ومشغولون بالطريق إلى حد الهوس، وهم مشغولون بالعلم والإنسان والإبداع والحياة، نريد اللحاق بهم، من وجدوا النور في آخر النفق المظلم... هم، من يملكون فن «التمكين والاقتدار وصناعة المصير» (وهي ضد الهدر)، يتمتعون في هذه اللحظة بنعمة الشمس وفيتاميناتها وألوانها وحريتها وصفائها وطمأنينتها، ونحن محبوسون داخل هذا النفق البارد المنهك، وما من دليل... لجأنا إلى السحر والخرافة والعرافة علها تنقذنا من حالنا، ولجأنا إلى تفسير الأحلام... للماء المقروء... لقارئة الفنجان... لتهدر طاقاتنا وكفاءاتنا وعلمنا وفكرنا، ويظل طريقنا مهدور مهدور مهدور! السؤال: هل سيجابه ويواجه ويتحدى الراغبون في الحياة صانعي الموت والتدمير الذاتي والهدر؟لست أدري !!
مقالات
الوطن المهدور
09-03-2009