إن الكاريكاتير فن لا يقتصر على فضح السلوكيات المعوجة للسلطة والحط من شأن رموزها المتعالين على الشعب، بل إنه يدفع الناس أنفسهم إلى الحركة الإيجابية التي تروم مكافحة الظلم ومناهضة القبح وتحسين شروط الحياة.

Ad

في تقديمه لموسوعة أثيرة عن الكاريكاتير العربي التي وسمت بـ«كوابيس وكواليس» يقول عمر شبانة: «إن كل لوحة من لوحات هذا الكتاب تنتقد بسخرية لاذعة ومريرة مظهرا من مظاهر العلاقة بين السلطة والشعب، ورغم اختلاف الأساليب والأدوات باختلاف الفنانين، فإنها جميعا تصب في خانة كشف وتعرية الأخطاء والجرائم التي ترتكبها السلطات العربية في حق المواطن العربي، كما أنها تكشف وتعري تشوهات المجتمع العربي بكل شرائحه وفئاته وطبقاته، فبقدر ما يطول النقد الساخر السلطة وتفرعاتها فإنه لا يغض النظر عن الطرف الآخر في العلاقة، وهو الشعب وقواه، بل يرسم المشهد الذي يظهر مسؤولية هذا الطرف الأخير عما يجري، إذ ليست مهمة الفن أن يقتصر على تناول جانب من الصورة، بل مهمته أن يرينا الصورة من زواياها كلها».

وفي مثل هذا القول ما يدل دلالة قاطعة على أن الكاريكاتير هو فن ظاهر للمقاومة المدنية، إذ إنه في كليته لا يقتصر على فضح السلوكيات المعوجة للسلطة والحط من شأن رموزها المتعالين على الشعب، بل إنه يدفع الناس أنفسهم إلى الحركة الإيجابية التي تروم مكافحة الظلم ومناهضة القبح وتحسين شروط الحياة. ولهذا يرى الناقد الكبير الدكتور علي الراعي أن الكاريكاتير هو «بحث في أحوال الوطن على شكل رسوم... وهو مسرح بالإمكانية، خصوصا إذا فكرنا في مسرح العرائس، كما أن المسرح كاريكاتير بالقدرة الكامنة، خصوصا إذا فكرنا في الكوميديا الهجائية والانتقادية، وكوميديا الكباريه السياسي، وكوميديا النقد الاجتماعي».

فالكاريكاتير لم يعد وسيلة للإضحاك والتسلية الفارغة، التي لا تسعى إلا للترويح عن النفس وذهاب الهم والغم، بل إنه يتخذ من الضحك وسيلة للتندر عملا بالحكمة الشهيرة التي تقول «شر البلية ما يضحك»، ليصبح ضحكا كالبكاء، يهدف إلى التحريض والتثوير بعد أن يكون قد أدى دوره في التنوير.

وقد لمس طلال سلمان كبد هذه الحقيقة في تقديمه لرسوم ياسين الخليل، حين وصف رسام الكاريكاتير بأنه «المقاتل المفرد» وقال: «متنكر في ثياب الرسام، أما مهمته الأصلية فمقاتل عريق يرفض تبديلها، ويرفض أن يستذكر ما كان قبلها، كما يرفض أن يفترض أن له مستقبلا خارجها، وهو مقاتل مفرد، ولذا يلقي على نفسه مهمات الجيوش جميعا. إنه لا يكتفي بالتعبئة والتحريض، ولكنه يتقدم الصفوف للمواجهة المباشرة مع الذات قبل العدو، معركته مفتوحة، ساحتها الوطن العربي، من مراكش للبحرين، أو من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، وزمانها الزمان، وعدوها العدو، بأل التعريف صريحة بالعبرية والأميركية وسائر اللغات الصليبية، سياسيا، أو اللغات الذليلة والتابعة، حتى لو كان بين الناطقين بها العرب العاربة».

ولأجل هذا فإن رسام الكاريكاتير، لاسيما الذي ينحو إلى السياسة بشتى معانيها، عليه أن يحوز سمات غير عادية، تمثل شروطا أساسية لمهنته، أولها امتلاك روح السخرية، وسرعة البديهة، وحضور الذهن وتوقده، والحضور في اللحظة المناسبة والوقت المناسب، علاوة على الثقافة الرفيعة التي تمكنه من اكتشاف ما لا يأتي للعقل بيسر، ولا يرد على الخاطر بسهولة، والإحاطة بتفاصيل الحدث أو الواقعة التي يرسمها. وكل هذا يمكّنه من أن يعبر عن فكرته بوضوح وتأثير بالغين، ويجعله يحوز قدرة على التنبؤ بنتائج لا يتوقعها كثيرون.

لكن الرسامين لا تتاح لهم في كل الأحوال أن يصبحوا مقاومين صرحاء أو ظاهرين، تطفح صورهم بالتحريض على التغيير والتمرد، ومن ثم فإنهم يتحولون أحيانا إلى «مقاومين بالحيلة» حين يلجؤون إلى الرمز، ويسلكون سبلا غير مباشرة للتعبير عن مواقفهم.

ويعبر الرسام بهجوري عما حدث لرسامي الكاريكاتير في مصر خلال ستينيات القرن العشرين بقوله: أدى كبت الحريات إلى عدم نشر أي نقد ساخر تطلقه الريشة. مات صاروخان رائدنا وشيخنا الكبير، وبعد نصف قرن من الرسم، لا يريد أن ينقد رغم تاريخ ريشته وصلابة عودها.

زهدي يرسم ركنا صغيرا بجوار باب «تحياتي إلى زوجك العزيز». بهجت وحجازي يصمتان في موقف صادق ضد التبعية والنفاق، اللباد يرسم للأطفال، ورجائي يهرب إلى أستراليا، أما أنا فقد اخترت أسلوبا عفويا وتلقائيا من الصعب تأويله، أو تحميله معنى خلف الرسم، ليبقى على القارئ أن يفهم ما وراء الخطوط، ويضع النقاط فوق الحروف.

وفي المقال القادم سنتطرق إلى كيفية استخدام الكاريكاتير في المقاومة سواء ضد الحكم الجائر أو العدو الخارجي.

* كاتب وباحث مصري