لا يمكن معرفة ما إذا كانت الأعمال التلفزيونية ستكتفي بأن تولّد لدى المواطن المتذمر بشكل صامت، إحساسا بالرضا لأن آخرين يصادقون على شكواه ويؤكدونها علنا بأسلوب فني، بدلا من أن تساهم في تحريض شيء من الإيجابية لديه كي يعيد رؤية واقعه البائس ومكانه ودوره فيه.بعض الدراما والكوميديا السورية لهذا العام، تحدث فوضى غير قابلة للترتيب في أحاسيس المشاهد السوري. للمغترب مثلا أن يصاب بتفاؤل فرح للحظات، وأسى على واقع الحال في لحظات أخرى، وللمقيم في الوطن أن يبتسم ابتسامة انتصار حينا، وأن يذرف دمعة يأس وإحباط حينا آخر. المشاعر كلها مبررة وطبيعية، في ضوء ما هو غير طبيعي وغير مبرر.
ما سر هذه الجرأة الملحوظة في طرح بعض القضايا ضمن بعض الأعمال الفنية، وبشكل خاص، تناول موضوع أخطبوط الفساد ورؤوسه الكبيرة الخفية، ودور الأجهزة الأمنية في المجتمع وعلاقتها بالمواطن.
من يشاهد مثل تلك اللوحات الفنية، لا بد أن تعتريه موجة تفاؤل، عابرة وسريعة على الأغلب! فالحرية النسبية في طرح وتصوير تلك المواضيع، يوحي بأن هامش حرية التعبير آخذ بالتوسع في هذا البلد. ولا يكفي لتغيير هذا الانطباع القول إن التلفزيون السوري قام بقصقصة عمل ومنع آخر، على سبيل الرقابة اللاحقة على تلك الأعمال، وهي تعرض في غير فضائية عربية تحظى بالمشاهدة أكثر بكثير مما تحظى به الفضائية السورية. أو أن يقال إن أعمالا قليلة تحمل هذا المضمون، لا تأثير لها في بحر من الأعمال الفنية التي أصبحت تسمى بأعمال «الطربوش والعقال»، نسبة إلى بيئتها الزمانية والمكانية، المغرقة في ابتعادها عن اللحظة الراهنة ومشكلاتها.
الانطباع قد يتغير فقط، بقراءة واقع الحال، وحتى من غير متابعة التقارير الحقوقية التي تظهر واقعا معاكسا تماما في ما يتعلق بهامش حرية التعبير.
حتى أن بعض المواطنين (من غير المعارضين وفق مفهوم المعارضة أدناه) المعتقلين على خلفية مقال أو تدوينة أو «تقرير أمني» يتهمهم بالبوح بعبارة ناقدة للوضع وأحواله، قالوا أقل بكثير مما قالته لوحة ساخرة في عمل كوميدي مثل «بقعة ضوء» أو «أيام الولدنة» أو مشهد صغير في العمل الدرامي «رياح الخماسين»، الذي يروي ولأول مرة قصة معتقل سياسي سابق متشبث بمبادئه وقيمه، يخرج من سجنه إلى مجتمعه الصغير الغارق في الفساد وانعدام القيم.
ومن المثير للاهتمام متابعة بعض ما قيل حول هذا المسلسل، الذي تعرض لهجوم من قبل بعض الأقلام المحلية، معتبرة أنه يصور ما لا يمكن حدوثه في البلد! ومستهجنة تصوير قضية المعتقل السياسي دراميا. تصف إحدى تلك الأقلام حوارا جرى بين البطل وابنه في إحدى الحلقات بالغباء، ليصل الكاتب إلى لب القضية بالنسبة له، متسائلا عما إذا كان المعتقل السياسي في هذا المسلسل هو قيادي في إعلان دمشق!
في المقابل، ومن باب الرد على ما أثير من انتقادات سلبية للمسلسل، ينفي أحد القائمين على العمل «تهمة» المعارضة عن بطله، ويؤكد أنه في الحلقات القادمة، سيقوم البطل بمنع ابنه من الانخراط مع المعارضة!
وفي السجال نفسه، كوميديا سوداء، نلحظ من خلالها أن ما قاله معدو العمل وأبطاله عبر حلقات العمل، لم يتجرؤوا على قول أقل منه بكثير عبر التصريحات الصحفية، وجرى الاكتفاء باتخاذ موقع دفاعي عبر التأكيد مرارا وتكرارا بأنه ليس في العمل ما يسيء للوطن!
الكوميديا السورية لهذا العام تزخر بالمشاهد «الأمنية» وأجوائها الساخرة. والمقصود، تصوير رجل الأمن، فرع الأمن، والمواطن في حضرة رجال الأمن. في معظم اللوحات التصويرية ذات الصلة، تظهر العلاقة بين الطرفين كعقد إذعان. ويظهر الرعب للمواطن في مقابل الضبط العنيف حينا و«الحضاري» حينا آخر من قبل رجل الأمن. وتظهر تلك العلاقة على أنها جزء لا يتجزأ وغير قابل للتغيير أو التعديل في حياتنا اليومية. لكن مهما كانت الابتسامة أو الضحكات التي تولدها هكذا مشاهد، فإنها لا تخفف من وقع الصدى الحقيقي لتلك العلاقة على أرض الواقع، والتي تستعيد مشاعر الرعب والقلق بمعزل تام عن حس الفكاهة وخفة الدم.
على أي حال، لا يمكن معرفة ما إذا كانت تلك الأعمال ستكتفي بأن تولّد لدى المواطن المتذمر بشكل صامت، إحساسا بالرضا لأن آخرين يصادقون على شكواه ويؤكدونها علنا بأسلوب فني، بدلا من أن تساهم في تحريض شيء من الإيجابية لديه كي يعيد رؤية واقعه البائس ومكانه ودوره فيه، لأنه يدرك أن ما ينتهي بانتهاء حلقة المسلسل يستمر وبأشكال أكثر قسوة وأقل فكاهة بكثير على أرض الواقع.
* كاتبة سورية