إن صفحات التاريخ كثيراً ما تُسطَّر على نحو يجعل الأبطال العسكريين في المقدمة، إلا أن الإمكانات الهائلة الكامنة في الزعامة الإنسانية تتراوح ما بين أتيلا الهوني (قائد عسكري تركي عظيم عاش في القرن الخامس الميلادي) إلى الأم تيريزا. إن أغلب الأبطال المعتادين لا يحتفي بهم أحد. والدور الذي تلعبه الزعامة البطولية في الحرب يؤدي إلى المبالغة في تأكيد التحكم والسيطرة والقوة العسكرية الصارمة. وفي أميركا اليوم، تدور المناظرة الرئاسية بين السيناتور جون ماكين بطل الحرب، والسيناتور باراك أوباما الناشط المجتمعي سابقاً.

Ad

إن صورة الزعيم المحارب مازالت باقية في العصور الحديثة. ويشير الكاتب روبرت كابلان إلى ميلاد «طبقة جديدة من المحاربين لا تقل قسوة عن محاربي العصور القديمة، بل أفضل منهم تسليحاً». ويتراوح أفراد هذه الطبقة ما بين زعماء المافيا الروسية وكبار تجار المخدرات في أميركا اللاتينية إلى الإرهابيين الذين يمجدون العنف، تماماً كما فعل الإغريق القدماء أثناء محاولاتهم الاستيلاء على طروادة. ويزعم كابلان أن زعماء العصر الحديث لابد أن تكون استجاباتهم على القدر نفسه من العنف، وأن الزعامة الحديثة سوف تتطلب ثقافة وثنية تضرب بجذورها في الماضي.

بيد أن المحاربين الأذكياء يعرفون كيف يمارسون القيادة بما هو أكثر من مجرد استخدام القوة. يمزح الجنود أحياناً فيقولون إن طبيعة وظيفتهم بسيطة: «قتل الناس وتحطيم الأشياء». إلا أن القلوب والعقول تشكل أهمية كبيرة أيضاً، كما اكتشفت الولايات المتحدة في العراق. والمحاربون الأذكياء يحتاجون قوة الجذب الناعمة إلى جانب قوة القهر الصارمة.

الحقيقة أن الصورة البالغة التبسيط لنمط الزعيم المحارب أثناء فترة ولاية الرئيس جورج دبليو بوش الأولى كانت سبباً في نكبات مكلفة لدور أميركا في العالم. إن الزعيم المحارب الأفضل في عصر الاتصالات اليوم لن يكون على هيئة أخيل عصري. بل إن الزعامة العسكرية اليوم تتطلب مهارات سياسية وإدارية.

إن العديد من الحكام المستبدين في زيمبابوي، وميانمار، وبيلاروسيا وغيرها مازالوا يتبعون النمط القديم في الزعامة. فهم يجمعون بين الخوف والفساد للحفاظ على حكمهم الفاسد الجشع الذي يهيمن عليه «الرجل الكبير» وزمرته. والحقيقة أن قسماً كبيراً من العالم يُحكَم على هذه الشاكلة اليوم.

يحاول بعض المنظرين تفسير هذا الأمر بنظرية «الذكر الأول في الزعامة». فيزعم الطبيب النفسي أرنولد م. لودفيغ، على سبيل المثال، أنه كما يبدأ القرد أو الشمبانزي أو الحيوان الرئيسي الذكر على نحو تلقائي في تحمل مزيد من المسؤوليات عن مجموعته بمجرد اكتسابه للمكانة المهيمنة التي يتمتع بها بوصفه الذكر الأول، يسلك الحكام البشر السلوك نفسه.

إلا أن مثل هذه التفسيرات الاجتماعية البيولوجية للزعامة لا تتمتع إلا بقدر محدود من القيمة. حتى الآن لم يتم التعرف على عامل وراثي للزعامة، والدراسات التي تجرى على التوائم المتطابقة وغير المتطابقة من الذكور تؤكد أن الثلث فقط من الاختلاف بين كل توأم في ما يتصل بالقدرة على تولي الأدوار الزعامية الرسمية يمكن إرجاعه إلى عوامل وراثية. ورغم أن هذا يشير إلى أن السمات الفطرية تؤثر بالدرجة التي قد تسمح للناس بالاضطلاع بأدوار معينة، فإنه يُترك مساحة كبيرة للسلوك المكتسب في التأثير على النتائج.

وحتى مع هذا، فإن أحد التأثيرات المرتبطة بالتفسير البطولي الحربي للزعامة يتلخص في دعم الاعتقاد بأن الزعماء يولدون ولا يصنعون، وأن الطبيعة أهم من التنشئة. وحتى أواخر أربعينيات القرن العشرين كان البحث عن السمات الرئيسية للزعيم مهيمناً على الدراسات المختصة بالزعامة، ومازال هذا التوجه شائعاً في الحديث الشعبي اليوم.

إن شخصاً طويلاً وسيماً يدخل إلى غرفة ما، لابد أن يشد الانتباه وأن «يبدو كأنه زعيم». وتؤكد الدراسات المختلفة أن الرجل الطويل مفضل في أغلب الأحيان، وأن المديرين التنفيذيين للشركات أطول من المتوسط. إلا أن بعض أقوى الزعماء في التاريخ، مثل نابليون وستالين ودينغ زياوبنغ كانوا من قِصار القامة.

لم يختف هذا النمط القائم على السمات في الدراسات الخاصة بالزعامة، إلا أنه أصبح أعرض اتساعاً وأكثر مرونة. فقد أصبحت السمات تُـرى باعتبارها أنماطاً متناغمة من الشخصية وليس باعتبارها خواص موروثة. وهذا التعريف يمزج بين الطبيعة والتنشئة، ويعني أن «السمات» من الممكن إلى حد ما أن تُكتسب بالتعلم وليس بالتوريث فقط.

إننا هنا نتحدث عن زعماء أكثر نشاطاً وقدرة على خوض المجازفات، وأكثر تفاؤلاً وقدرة على الإقناع، وأعظم تعاطفاً مع الناس واهتماماً بهم. إلا أن هذه السمات تتأثر جزئياً بالتركيبة الوراثية للزعيم وجزئياً بالبيئة التي شهدت اكتساب هذه السمات وتطورها.

أظهرت إحدى الدراسات المقنعة التي أجريت أخيراً وجود تفاعل واضح بين الطبيعة والنشأة. فقد طُـلِب من أفراد مجموعة من أصحاب العمل أن يختاروا من بين عمال لتوظيفهم بعد تصنيفهم بالحكم على مظهرهم فقط. وحين اطلع أصحاب العمل على السير الذاتية فقط فلم يكن لجمال المظهر تأثير كبير على عملية التوظيف.

ولكن من المدهش أنه في حالة إجراء المقابلات عن طريق الهاتف تبين أن الأداء الأفضل كان لأشخاص يتمتعون بجمال المظهر، رغم أن أصحاب العمل لم يروهم. ويبدو أن حياة هؤلاء الأشخاص في ظل الدعم الاجتماعي القائم على مظهرهم الوراثي الطيب ربما أكسب أصواتهم نبرة من الثقة بالذات. وهنا سنجد تشابكاً واضحاً بين الطبيعة والنشأة.

إن العوامل الوراثية والبيولوجية تؤثر على الزعامة بين البشر، إلا أنها لا تحدد هيئتها على النحو الذي يقترحه التفسير البطولي الحربي التقليدي للزعامة. إن نمط «الرجل الكبير» في الزعامة لا ينجح إلا في المجتمعات القائمة على شبكات من الثقافات القَـبَلية التي تعتمد على الشرف الشخصي والعائلي والإخلاص. إلا أن مثل هذه التركيبات الاجتماعية ليست مهيأة للتكيف مع عالم اليوم المعقد القائم على المعلومات. ففي المجتمعات الحديثة تعمل القيود المؤسسية مثل الدستور والأنظمة القانونية الموضوعية على تقييد هذه الهيئة البطولية.

إن المجتمعات التي تعتمد على الزعماء البطوليين تعاني البطء في التطور إلى مجتمعات مدنية واكتساب رأس المال الاجتماعي العريض اللازم للزعامة في عالم اليوم المعاصر المتشابك. ويبدو أن الزعامة العصرية لا تستند إلى هويتك أو محل مولدك بقدر ما تستند إلى ما تعلمته أثناء نشأتك وكيفية أدائك كجزء من مجموعة. إن الطبيعة والتنشئة متشابكتان، ولكن أهمية التنشئة في العالم المعاصر أعظم كثيراً مما يعترف به النموذج البطولي.

إن مجتمعات المعلومات الحديثة تتطلب منا أن نذهب إلى ما هو أبعد من نمط «الرجل الكبير» في تفسير الزعامة. ولسوف يكون من المشوق أن نرى كيف قد تؤثر هذه الأنماط التقليدية على المنافسة الرئاسية في الولايات المتحدة هذا العام.

* جوزيف س. ناي | Joseph Samuel Nye، مساعد وزير دفاع الولايات المتحدة الأسبق، وأستاذ بجامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «قوى الزعامة».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»