أسبوعٌ تشكيليٌّ
كان الأسبوع الذي قضيتُه في هولندا تشكيلياً كما توقعت، فهناك أكثرُ من متحفٍ للفن، وأكثرُ من قاعةٍ للعرض، وهناك، بالإضافة إلى ذلك، أكثرُ من فنانٍ تشكيلي عراقي، لكن هذا الأسبوعَ ظلَّ مُحاصَراً، أيضاً، بلوثةِ النزعةِ السياحية التي أثقلتْ كاهلَ أمستردام، أثقلتْ كاهلَ مدنِ الغربِ جملةً، إذ حيث تحلّ الزحمةُ تحلّ السرعة، وفسادُ الأكل، والتعامل، والسطحُ الكاذب للحياة، على أن وراء هذا السطح تظلُّ إطلالةُ فان كوخ، رامبرانت، فيرمير معزيةً ومُطَمْئِنة.
لم أختَر الثلاثة اعتباطاً، هناك بالتأكيد آخرون لا يفتقدون إلى روعة هؤلاء، لكني أفضل عادةً الانفرادَ بمن أحب، أكثّفُ زمن اللقاء، ولا أفرط به. أفعلُ ذلك مع متاحف لندن الفنية، أذهب مُستهدفاً، مرحلة بعينها، أو فناناً بعينه، أو لوحة واحدة. متحفُ فان كوخ ينعم بالكثير من أعماله المبكرة، وبعد أن غيّبتُ السائحين عن المشهد، وانفردت داخل دائرةِ الصمت بالفنان، تبينتُ مقدار ضعفهِ في عناصر الرسم الأولية، وتبينتُ مقدارَ الجهد الذي بذله من أجل أنْ يستبدلَ اللون والحركة بضعفِ هذه العناصر. حدث ذلك في النصف الثاني من حياة إنتاجه القصيرة، عنفُ الحركة في لوحته يكاد يستحضرُ الزمانََ في هذا الفن المكاني، كما أن سيادةَ اللون فريدة لديه بين الفنانين، تخرج من أصابعه، من «التيوب» مباشرة، ومن شُعيرات الفرشاةِ مُنفردات، تسعى هي والحركةَ إلى أن تتطابقا مع الريح، والطير، وتوترات الحبّ الملتبسة. استعدتُ فيلمين وضعا عن حياته: أميركي لفينسينت مينيللي (1956)، وفرنسي لموريس بيالات (1991). وكلاهما غيّبا اللوحة وتفرّغا للعصب المضطرب. رأيت لوحةَ «فتاة بقرط اللؤلؤ» لفيرمير في متحف Mauritshuit في لاهاي، صغيرة شأن كلّ لوحاته، تنطوي على فتنة شديدة الجاذبية، شديدة السرية، توقفت أتأملُ التفاتةَ الوجه الطفولي لخادمته، وذلك القرط المضيء كمصباح، وقد احتل طرَفَ العتمة خلف الرقبة، وكأنه أراد بذلك توفيرَ توازنٍ في الشكل مع ابتسامةِ الشفتين والعينين، التفاتةٌ فجْريةٌ عزّ نظيرُها في الفن، أثارت حماس الروائية الانكليزية تريسي تشيفالير لكتابة رواية بعنوان اللوحة ذاته (1999)، التي أخرجها فيلماً بالغ العذوبة بيتر وَيبر (2003)، واليوم يُعلن «مسرح هََيْ ماركِت الملكي» في لندن عن عرض مسرحي لهذه الرواية. فيرمير يحتوي وجهَ خادمته بسحر الفرشاة، فنون الرواية والسينما والمسرح تحاول احتواء الوجه واللحاق بفرشاة فيرمير فلا تفلح، هذا الفنان الهولندي مُقلٌّ بصورة ملفتة للنظر، فلم تصل منه غير ثلاثين لوحة، معظمها صغير الحجم، يقتصر على مشهد داخلي، عادةً ما يكون في ركنٍ، وعلى مقربة من نافذةٍ، من أجل الضوء، ولشخوص على قدرٍ من تواضع الحال. من زاوية نظر أخرى، يبدو ضوءُ رامبرانت مركزيّاً، وسط عتمةٍ بنيّةٍ على الأغلب. الضوءُ موجودٌ لذاته، يُقبلُ من نافذةٍ، أو مصباح، أو شمس، له حضورٌ واسعٌ في أمستردام: لوحاتٌ عديدةٌ في متحف ريكس، وأعمال زنك في متحف بيته الكبير. متعة لا تضاهيها إلا متعة فيرمير، فالزمنُ كلّي الحضور في لوحته. فرشاتُه تتحركُ على وجه الإنسان ويده من أجل تفعيل الزمن، مقارنةً بشخوص الرسامين في مرحلته، حيثُ تبدو الوجوه والأكف مثالية، خارج فعل الزمان. والأكثر إثارة في العرض لوحة شهيرة باسم «حراسة ليلية»، بسبب حجمها الضخم، وعدد شخوصها، وبسبب الحكاية التي وراءها. فالمشهد ليس ليلياً وإنما أصبح معتماً بسبب تأثير طلاء الوارنيش، كما أن الجمهرة ليست إلا ميليشيا لكابتن معروف. ورامبرانت رسم الشخصيات بتكليف، لكنه أخضعهم، على غير إرادة منهم، إلى مزاج التأليف الدرامي، الأمر الذي أغاظ الكثيرين منهم، ولكن رَمبرانت لم يغير من اللوحة شيئاً، بل عوّضهم برسم بورتريتات شخصية بديلة، أو أعاد إليهم مبالغ التكليف. يُروى أن هذا الموقفَ الفنيَّ الخالصَ أضعف سمعةَ رَمبرانت، وقاده فيما بعد إلى الإفلاس. دراما حركة الشخوص، البالغ عددهم أربعة وعشرين، غاية في الحيوية. الأمرُ الذي قاد كاتب يُدعى جان تيتيرو إلى كتابة رواية بعنوان No Flash، تعتمد تداخلاً غريباً بين موعد للبطل مع امرأة غامضة عند هذه اللوحة، وبين شخوص اللوحة واحداً واحداً. بعد قراءتي الرواية صرت أملُ أنْ أقعَ على فلمٍٍ، أو مسرحيةٍ، أو عملٍ موسيقي عن اللوحة الشهيرةِ... وقد يحدث ذات يوم!