في الأعوام الأخيرة، تسلح معظم الطوائف والأحزاب في بلادنا بالقنوات الفضائية وبمتحدثين حلفاء بارعين وقادرين على المناورة وتلوين الأحداث وتخوين الآخر المختلف أو قمعه. وأفضى ذلك في النهاية إلى إعلاء راية التشظي وإشعال الفتن واختزال الهوية واستبدال الطائفة بالوطن... وما يحدث في لبنان والأراضي الفلسطينية والعراق وغيره يبرهن على ذلك.

Ad

وأذكّر هنا بمؤتمر الدوحة الذي عُقد قبل أسابيع لحل المشكلة اللبنانية، فأثناء انعقاد المؤتمر بثت إحدى القنوات التلفزيونية حلقة عن رجل الشارع اللبناني، ولا أعرف إن كان زعماء لبنان قد سمعوا أو شاهدوا بأنفسهم فرحة مواطنهم وابتهاجه بالهدوء الذي عاد إلى بيروت بسبب غيابهم وسفرهم إلى قطر للمشاركة في حوار المصالحة، ومن ثم توقف الفضائيات عن بث البيانات والبيانات المضادة والخطب والبرامج التي تفجر الصراع وتحرض على المواجهة وتبارك التشظي.

معظم الفضائيات في بلادنا منح نفسه رتب الجنرالات وحق تقسيم المواطنين إلى حلفاء وعملاء وأعداء، ما ساهم بدوره في نشر ثقافة الكراهية وأناشيد التعصب وحروب الطوائف.

الإنسان ابن مكانه وزمانه ودينه، والمكان يعنى الجغرافيا والتاريخ واللغة والثقافة والتراث، وهذه العناصر مجتمعة هي التي تشكل الهوية، وتمنح الإنسان فرادته وتميزه وقدرته على الالتقاء بالآخرين ومعايشة مواطنيه ومشاركتهم في الحلم العام. وقد أدى اختزال الهوية وربطها فقط بالدين أو المذهب إلى اختزال مفهوم الوطن والذات، وإلى إقصاء الآخر، وإلى هذا الاحتقان الذي نراه ونعيش أحداثه ونتائجه.

واختزال الهوية، هو محور كتاب «الهوية والعنف» للكاتب الهندي أمارتيا صن ترجمته سحر خليفة وأصدرته قبل فترة سلسلة «عالم المعرفة»، ويقول الكاتب في مقدمته «الآثار المروعة لتصغير الناس هو موضوع هذا الكتاب». و«تصغير الناس» يعني به هنا اختزال هوياتهم، واقتلاعهم من رحابة التعدد وأفق الحرية والتسامح والمشاركة، وإعادة تصنيفهم وتقسيمهم وتعبئتهم في عبوات صغيرة، وشحنهم بكراهية الآخر والخوف منه، ومن ثم إعدادهم لمواجهته ودحره أو إبادته، فالهوية التي تمنح الإنسان الفخر والبهجة والثقة، بوسعها عندما تُشوَّه أو تُختزل أن تقتل بلا رحمة، فعندما تقسِّم أبناء الوطن إلى طوائف تسعى كل واحدة منها إلى إلغاء الآخرى أو قهرها.

وينطلق الكاتب من أحداث تجربته الحياتية، فقد ولد في دكا (عاصمة بنغلاديش الآن) عام 1933 وعاش في طفولته أحداث تقسيم الهند في أربعينيات القرن الماضي، ورأى المجازر والصراع الذي دار بين الهندوس والمسلمين في ذلك الوقت ويعلق هنا قائلاً: «لاأزال أذكر السرعة التي حدث بها أن الناس الذين كانوا بشراً بشكل عام في شهر يناير، تحولوا فجأة في شهر يوليو إلى هندوس عديمي الرحمة ومسلمين شديدي القسوة. وقد حدث ذلك التحول بعد فرض هويات جديدة عدوانية وإنعزالية أدت إلى المواجهات والاقتتال وإفناء مئات الآلاف من البشر». ويتابع بقوله: «كما أدت تلك الحالة إلى تضخيم صوت السلطة الدينية وتحويل رجال الدين إلى زعماء وقادة سياسيين أو عسكريين يرون الآخر كافراً وعدواً ويحضون أتباعهم على دحره وإبادته»!

وينتقد أمارتيا صن، الذي يعيش في بريطانيا المتعددة الأعراق، قيام الدولة بتشجيع وتمويل المدارس الطائفية في بريطانيا المدارس المسيحية والإسلامية والهندوسية ومدارس السيخ... قائلاً: «هذه المدارس تضع الأطفال عنوة في معازل وتحت سيطرة الانتماءات المفردة والمختزلة في وقت مبكر من حياتهم قبل أن يمتلكوا القدرة على فهم وإدراك التعددية التي تشكل هوياتهم».

والغريب هنا، أنه قبل أكثر من قرن فشلت السياسة الاستعمارية في التفريق بين المسلمين والمسيحيين أو تشجيع الطائفية في بلادنا، فقال اللورد كرومر الذي كان الحاكم الفعلي لمصر في ذلك الوقت: «مكان الصلاة هو الفرق الوحيد بين المسلم والقبطي المصرييّن؛ فأحدهما يصلي في المسجد والآخر في الكنيسة». غير أن ما فشل في تحقيقه كرومر وسياسة «فرق تسد»، أنجزه ببراعة زعمائنا، وإعلامنا، وأجهزة التعليم، وانحسار أفق الحرية والعدل الاجتماعي، وتوظيف الدين سياسياً، ومن ثم اختزال الهوية وإيقاظ الفتن والصراعات الطائفية.

وأظننا نتذكر صعود الحلم القومي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي الذي وسّع الهوية وعمّقها ومنح الناس حلماً عاماً يكدّون من أجله، ثم انهار ذلك الحلم، وعنّت بدايات التشظي في السبعينيات في عهد السادات الذي منح نفسه لقب الرئيس المؤمن، وحارب بالدين خصومه كلهم، ووضع أساس الهوية المختزلة التي أرجعت هزيمة يونيو 67 إلى الابتعاد عن الدين، وهو ما أشاع الهلوسة والدروشة وفتح الأبواب واسعاً أمام التشدد وتكفير الناس وبعث الفتن الطائفية التي مازلنا نعانيها حتى الآن!

* كاتب وشاعر مصري