حدثان عالميان فرضا وظيفة الدولة من جديد!
تفرج العالم على تفكك «دولة الصومال»... فحصد القراصنة! وربما أدى ظهور هؤلاء في سواحل الصومال «البالغة ما يقارب أربعة آلاف كيلومتر» وخليج عدن الاستراتيجي، إلى محاولة بعض القوى الدولية الاستفادة من هذه الظاهرة، لاكتساب مواقع قدم لها في تلك البقعة الاستراتيجية الحساسة بحجة إرسال قطع بحرية لمقاومة القرصنة وحماية الملاحة الدولية، إلا أن السبب الأساسي في تقديرنا لظهور القراصنة وممارساتهم «وأغلبهم كانوا من رجال البحرية في الدولة المتهاوية» هو تهاوي هذه الدولة!
فلو بقيت دولة راسخة ومسؤولة في الصومال لما أمكن للقراصنة أن ينطلقوا من أراضيها وسواحلها، ولم يحدث ذلك على أي حال أيام وجود «الدولة»... ولا يمكن أن يحدث مثل ذلك في أي «دولة» أخرى تتمتع بمقومات الدولة وقدراتها.لقد تفرج العالم بأسره «وفي المقدمة قواه الدولية المؤثرة، والدول الإقليمية المعنية في البحر الأحمر» على تفكك دولة الصومال وانحلالها، وانسحبت الولايات المتحدة من الصومال سريعاً أمام أول تحد لوجودها، كما أخفق التدخل الأثيوبي العسكري المباشر كما يتضح اليوم من قرار الانسحاب الذي تحاول أديس أبابا موازنته بالقول إنها لن تترك فراغاً في الصومال بعد التحضير لبدائل سلطة محلية قادرة على الفعل، أو هكذا يُفترض... وثمة توجه في مجلس الأمن لإرسال قوة دولية جديدة إلى الصومال... ولكن التطورات تفيد بمبادرة قوى محلية مضادة لملء ذلك «الفراغ» وما صحبته من فوضى.ومن تاريخ تجربة الدولة في الصومال، منذ تأسيسها، يتضح أن التدخل العسكري المباشر لأي قوة أجنبية محكوم بالفشل، كما يتضح من التدخل الأميركي، وبعده الأثيوبي، بينما نجحت كل من مصر الناصرية وروسيا السوفييتية في بداية الاستقلال وتأسيس الدولة مطلع الستينيات في إيقاف هذه «الدولة» على قدميها بوسائل أخرى هي اليوم في متناول الباحثين.وعلينا ألا نستغرب من ظاهرة اللامبالاة وانعدام روح المسؤولية التي أخذت تسود العالم، فقد رأينا كيف أخذ العالم المتحضر «يتفرج» على ما هو أفظع في «غزة فلسطين»، بينما الأطفال والنساء يتحولون إلى أشلاء أمام آلة الحرب الإسرائيلية، دون أن يحرك العالم ساكناً... رغم قرار مجلس الأمن بوقف العدوان على غزة.أسـهم تطوران مهمان أخيراً في إعادة الاعتبار إلى الفكر القائل بضرورة استمرار الدولة، وبحاجة المجتمعات الإنسانية إلى وظائفها، بعد أن توهم البعض أن زمن العولمة يقتضي تجاوز الدولة وتفكيكها وإلغاء مؤسساتها.أما التطور الأشمل فهو الأزمة المالية العالمية التي لولا مسارعة «الدول» إلى إنقاذ البنوك والشركات والمؤسسات المفلسة من خسائرها لفقد المواطنون ودائعهم ومدخراتهم، وأصبح الإفلاس ظاهرة عامة تأكل الأخضر واليابس. وثمة مطالبات «بتأميم» البنوك بالكامل لحمايتها! ومن دروس «الكساد العظيم» في 1929 فإن دولاً عدة تدخلت في الاقتصاد ولإنقاذه، وقد أثبت «منتدى التنافسية» العالمي الذي انعقد في السعودية أخيراً أنه لا مفر من وظيفة الدولة ودورها في ترشيد الاقتصاد ورعاية العدالة الاجتماعية. وأما التطور العياني الثاني فهو انهيار الدولة في الصومال، وانفلات القراصنة للسيطرة على سواحله واختراق خليج عدن- مدخل البحر الأحمر الممتد إلى قناة السويس- في ظاهرة بحرية حققت أحلام العدميين والفوضويين الذين أرادوا العودة بالبشرية إلى عصور الغاب قبل ارتقاء التطور البشري إلى إقامة دولة القانون.إن مشكلة كون القراصنة فقراء ومعدمين لا يمكن حلها بتقديم «الفدية» إليهم بعد كل اختطاف، فهذه الأموال تذهب سدى لتلبية شهوات ومغامرات الخاطفين، وعلى دولتهم- أي دولة- أن تحل مشكلة فقرائها بتحقيق العدل الاجتماعي لهم، فهذا ما ناضلت من أجله البشرية منذ أن اكتشفت مؤسسة «الدولة».أياً كان الأمر، فقد فرضت «الحالة الصومالية» نفسها على المجتمع الدولي بـ«فضل» القراصنة! ولكن لابد من التوقف لدى دعوات صومالية مسؤولة بشأن ضرورة إعادة وجود الدولة وسلطتها المركزية، لا الهروب من الصومال بعد حل مشكلة القرصنة في سواحله... فثمة مشكلة أخطر في الصومال، وهي تنامي الفصائل المتطرفة المسلحة التي يمكن أن تظهر في أيامنا لدى انهيار أي دولة. وذلك ما يجب متابعته لدى المهتمين بمستقبل «الدولة العراقية»، على سبيل المثال لا الحصر... وحيث تكبر العصبيات والقبليات، كما في العراق والصومال وأفغانستان، فإن مسألة ترسيخ كيان الدولة ليس بالأمر السهل، كما نبّه ابن خلدون، أو كما قال القدماء في الاختيار بين سلطة قائمة أو فوضى عارمة: (سلطان غشوم ولا فتنة تدوم!).* * *وما يهمنا من مقاربة موضوع القرصنة ليس هذه الظاهرة في حد ذاتها، فهي عرض من أعراض حالة أخطر، ألا وهي غياب الدولة وتفككها. لقد نشأ «فكر» بموازاة ظاهرة العولمة وكذلك الراديكالية الفوضوية المناقضة لها والتي تستغل «مبرراتها» الفكرية لإلغاء الدولة ثم تهاجمها في قضايا أخرى، نشأ عن ذلك توجّه فكري همه تجاوز وجود «الدولة» ومؤسساتها، وهو توجه قاتل عربياً، بحكم أن العرب تأرجحوا، تاريخياً، بين حالة الدولة واللادولة. وهذا ما يفسر في تقديرنا القصور العربي السياسي السائد بحكم أن الدولة «هي مدرسة السياسة» كما أبنّا في مؤلفات عدة، ومن الأهمية بمكان نمو الدولة ونضجهـا في الفضاء العربـي شريطة أن تدخل «إصلاحات كثيرة على مؤسساتها وتكييف أدائها لمتطلبات التنمية الشاملة»- سعيد الصديقي (هل تستطيع الدولة الوطنية أن تقاوم تحديات العولمة؟) في كتاب «العولمة والنظام الدولي الجديد»، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2004، ص 131. ويضيف مستشهداً بمقالة توفيق إبراهيم في فصلية «عالم الفكر» الكويتية، ديسمبر 1999: فنحن في حاجة إلى: «دولة قوية وليس تسلطية، دولة مؤسسات وليس دولة أشخاص، دولة قانون وشفافية...». أو كما يقول باحث آخر هو نادر كاظم: «الدولة مكون مركزي ولا غنى عنه في الليبرالية والتعددية الثقافية... فالدولة هي من يقع على عاتقها القيام بواجب المعاملة والاحترام المتساويين... وفي المقابل يعترف المواطنون بمشروعية حكم الدولة...»- صحيفة الوسط 20 يناير 2009، ص 19.ويؤكد الصديقي في موضع آخر من بحثه: «إن أهمية السلطات العمومية في تنمية البلدان الفقيرة هو أمر غير قابل للمساومة والنقاش... ويأتي على رأس الأهداف... إقامة إطار مؤسسات ملائم وسليم للرفاه الاقتصادي والاجتماعي، وللأمن الداخلي وحمايته وعليها أن تملك موارد مالية وآليات تسيير... والتي ستسمح لها بإصلاح عجز الأسواق. يجب عليها أن تتكفل بميادين التعليم والصحة، ودعم المقاولات الصناعية، وتشجيع إصلاحات زراعية. ستحدث كارثة محققة إن انسحبت الدولة من الاضطلاع بمسؤولياتها»، ويضيف استناداً إلى هانس بيتر مارتين وهارولد شومان في كتابهما الصادر عن عالم المعرفة الكويتي، ترجمة عباس علي: «فالدولة وحكومتها تظلان المؤسسة الوحيدة التي يستطيع المواطنون والناخبون مطالبتها بالسهر على العدالة والنهوض بالمسؤولية وتحقيق التحولات المطلوبة» الصديقي، مصدر سابق، ص 132.وبناءً على دراسات أكاديمية معتمدة فقد: «أبدت (الدولة) دائماً مرونة مدهشة وقدرة كبيرة على التكيّف مع التحولات التي تطرأ عليها. وفي جميع الاحتمالات، فإن الدولة الوطنية ستقاوم عولمة الاقتصاد والثورة الإعلامية المصاحبة لها، إذا أحدثت تغييرات كبيرة على نفسها... وعليه فإن الفكرة المهمة ليست هي استبدال الدولة الوطنية بل تكييفها حتى تكون أكثر استجابة لاحتياجات الإنسان في ظل الظروف الدولية الجديدة...»– صديقي، مصدر سابق، ص 132.هكذا تبقى الدولة- بعد إصلاحها- الخيار الأسلم للإنسان المعاصر بين تجمعات «فوق- وطنية» كالمنظمات الدولية، وتكوينات «تحت- وطنية» كالطائفة والعشيرة والمحلة... وهذه التكوينات الأخيرة تمثل اليوم التحدي الأخطر لتماسك المجتمعات العربية، واستقرارها وأمنها. * مفكر من البحرين