Ad

إن محاكمة طارق عزيز، إذا ما أُعطيت حقوقها في النقل والنشر عبر وسائل الإعلام المحلية والعالمية قد تكون أكثر إثارة للجدل من محاكمة صدام حسين، داخلياً وعربياً ودولياً، لأن الرجل يملك من الأسرار الكثير الكثير، ليس في الشأن العراقي فحسب، بل في الشأن الدولي أيضاً.

طارق عزيز الذي ملأ دنيا السياسة العربية، وشغل الإعلام الغربي والشرقي على مدى ربع قرن، يقف اليوم في قفص الاتهام في بغداد ليواجه مصيراً- ربما كان معروفاً سلفاً- بتهمة ما يقوله الادعاء الجنائي عن اشتراكه في مذبحة كبار التجار العراقيين في أعقاب طرد صدام حسين من الكويت في العام 1992.

لست في مجال الدفاع عن الرجل الذي عرفته عن كثب طيلة فترة طويلة، أي منذ أن كان رئيساً لتحرير جريدة «الثورة» العراقية، وإلى آخر منصب له كعضو في مجلس قيادة الثورة، وكنائب ثانٍ لرئيس مجلس وزراء العراق، الذي هو منصب آخر لصدام بالإضافة إلى رئاسة الجمهورية وأمين عام لحزب البعث، بعد وفاة مؤسسه ميشيل عفلق، ورئيس لمجلس قيادة الثورة، وهي أعلى سلطة تشريعية وتنفيذية في البلاد، و... بل بصدد محاولة إنصاف هذا الرجل، وذكر بعض الحقائق غير المعروفة طيلة عمله كموظف ممتاز في جهاز الحكم العراقي السابق. كذلك إظهار بعض الوقائع التي عرفتها وعايشتها نتيجة اقترابي من صنـّاع القرار في تلك الفترة، خاصة عن الإنسان الذي اعترف خصومه قبل محبيه أنه كان -فكرياً- بمنزلة قطرة ندى في صحراء قاحلة.

الجريمة التي يُحاكم بها اليوم، قانونياً وسياسياً، لن تستطيع أن تقف على رجليها، في حال وجود قضاء عادل ومنصف. اللهم إذا كان المقصود إظهار براءته من هذه التهمة، ومن غيرها تمهيداً لإطلاق سراحه، وهذا أمر ربما يكون بعيد الحدوث، إلا إذا أرادت العدالة الجديدة في العراق أن تكفـّر عن الأخطاء القانونية التي ارتكبتها بحق صدام ورفاقه داخل قوس المحكمة وعلى حبل المشنقة. فإذا كان الوضع كذلك، يكون القضاء الجديد قد استعاد ثقة الناس به، وتلك خطوة أساسية لبناء عراق حرّ يشعر المواطن في ظلاله بأن هناك من يحميه من طغيان الطغاة الجدد، ومن عادة الثأر البشعة التي لاتزال تشوه عدالة مجتمعنا العربي.

وبالرغم من أنني لست متفائلاً بحدوث ذلك، فإنني أتمناه من كل جوارحي، ليس لإنقاذ طارق عزيز من مصيره المحتوم، بل لأنه بداية صحيحة نحو عراق أفضل تسوده العدالة التي هي العنصر الأساسي في مسيرة الاستقرار ليس للعراق وحده بل لكل البلاد العربية. غير أن هذا لا يعني براءة طارق عزيز من دم يعقوب، فهو مسؤول ويجب أن يُقدّم إلى محكمة الجنايات ومحكمة التاريخ أيضاً نتيجة انصياعه الكامل لأوامر سيده، مرة عن قناعة ومرات عن خوف. والجريمة التاريخية الأولى التي ارتكبها «أبو زياد» حدثت في أعقاب الانقلاب البعثي في العام 1968، عندما سارع صدام إلى السيطرة على مفاصل الحكم والحكومة، منذ اليوم الأول، متستراً بقائد الانقلاب الصوري قريبه أحمد حسن البكر. في ذلك الزمن، ومباشرة بعد نجاح الانقلاب، بدأ صراع مرير على السلطة داخل القيادة البعثية، حيث برز جناحان: الأول يمثله صدام والبكر و«مجموعة التكارتة»، والثاني يجسّده مثقفو وإيديولوجيو الحزب بزعامة عبدالخالق السامرائي. وانتحى طارق جانباً يشاهد هذا الصراع عن بعد من نافذة منزله المتواضع جداً، وينتظر نتيجة هذا الصراع ليحدد موقفه. وعندما وجد أن عضل صدام ومجموعته في طريقه إلى الانتصار على عقل عبد الخالق وإيديولوجيي الحزب، انضم إلى الجناح الأقوى بانتهازية مفرطة. وبهذا خان طبقته، وكان الأجدر به أن يفعل كما فعل تروتسكي في صراعه مع ستالين بعد موت لينين حتى لو أدى ذلك إلى قتله، كما حصل لضمير الثورة البلشفية والشيوعية عندما أرسل ستالين فرقة لاغتيال تروتسكي وهو في منفاه المكسيكي. وكانت تلك أولى جرائم طاغية موسكو قبل أن يصل عدد ضحاياه إلى نحو 5 ملايين، معظمهم من كبار مثقفي الحزب.

ولا شك أن هناك وجه شبه بين الحادثتين مع الفارق أن تروتسكي فضّل أن يضحي بحياته في مقاومة الطغيان الستاليني، بينما سبح طارق عزيز مع موجة القوة مما أدى إلى وصول العراق إلى ما وصل إليه الآن. أيضاً هناك فارق كبير في وجه التشابه بين ستالين وصدام. فستالين قاد حملة بلاده لتحريرها من الاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية، ومات بصورة طبيعية على فراشه، بينما صدام قاد بلاده نحو الاحتلال الأميركي والأممي وانتهى على حبل المشنقة.

أما مصير عبدالخالق السامرائي فكان السجن لسنوات عديدة ثم الحكم بإعدامه. وبزوال السامرائي بدأ نجم طارق يبرز كإيديولوجي ثانٍ بعد ميشيل عفلق، حيث تبوأ المركز إثر المركز إلى أن وصل إلى الطبقة العليا في صناعة القرار السياسي والمصيري.

وإذا كان لا بد من محاكمته، فمن الأجدر أن يحاكم بهذه التهمة وبغيرها، وهي كثيرة، لا أن يساق إلى قوس المحكمة بتهمة لا حول ولا قوة قانونية لها.

لقد حمل طارق عزيز، وطوال أكثر من ربع قرن اسم العراق إلى أرجاء الدنيا، ولم يُعرف العراق في الإطار العالمي إلا من خلال صدام حسين وطارق عزيز. ولعل هذا الواقع أثار حفيظة صدام وأعداء طارق، خصوصاً أن صدام كان يرفض، وبإصرار يصل إلى حد الإعدام، في أن يشاركه أحد في «أمجاده». وقد دفع طارق عزيز ثمن هذه «المشاركة بالأمجاد» غالياً كما سأبيّن ذلك في الحلقة القادمة. لكن أن يُتهم طارق بالاشتراك بقتل 40 من كبار تجار العراق، وهو البعيد كل البعد عن التجارة وفنونها وأساليبها الملتوية فتلك ثالثة الأثافي. وكان الأجدى والأنفع للذين يقفون وراء محاكمته طلباً للثأر وليس لتحقيق العدالة أن يفتشوا في دفاترهم القديمة عن تهمة تستطيع أن تقف على ساقين أمام عدالة القضاء المطلوبة، لا أن تقف على «نصف رجل» كبطة عرجاء.

إن الرجل مريض يعيش على فتات الأدوية التي يقدمها له سجّانوه الأميركيون. بالإضافة إلى أن هؤلاء السجّان قدموا له العرض تلو العرض لإطلاق سراحه مقابل أن يتعاون معهم في إدانة رئيسه ورفاقه الذين سبقوه إلى حبل المشنقة. دافعه كان الإيمان بعناد بصوابية إيديولوجيته التي نما وترعرع في أحضانها. وفعل الإيمان هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنه كان إيماناً محقاً، إذ إن الإيمان بالشيء، ولو كان في نظر بعضهم يعتبر كفراً، إلا أنه يبقى في الإطار الوصفي يحمل معاني الإيمان. وإذا لم ينصفه محاكموه في هذه الناحية الفلسفية- وأعتقد أنه لن يُـنصف- إلا أن التاريخ، إذا كُتب بأيدٍ نظيفة، لا بحبر المنتصرين، قد يقدم على عملية الإنصاف هذه.

إن محاكمة طارق عزيز، إذا ما أُعطيت حقوقها في النقل والنشر عبر وسائل الإعلام المحلية والعالمية قد تكون أكثر إثارة للجدل من محاكمة صدام حسين، داخلياً وعربياً ودولياً، لأن الرجل يملك من الأسرار الكثير الكثير، ليس في الشأن العراقي فحسب، بل في الشأن الدولي أيضاً نظراً لأنه كان المسؤول عن المزايدات والمناقصات والصفقات السياسية مع دول كثيرة أبرزها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والصين وفرنسا التي كانت تفرش له السجاد الأحمر منثوراً بالزهور كلما زار عاصمتها باريس. كذلك كان مسؤولاً عن فتح خط بغداد-دمشق في أواخر أيام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. و«الثمن» الذي دفعته بغداد حينذاك.

فـي وقـت لـم يمـرّ عليـه الزمـن، قـال لي أحد كبار منتجي برنامج «ستون دقيقة» (60 MINUTES) في محطة (C.B.S) الأميركية إنه حاول أن يقنع قوات الاحتلال السماح له بإجراء مقابلة مع طارق عزيز في سجنه، وقال بصيغة مجازية، إنه مستعد أن يدفع نصف عمره ثمناً لهذه المقابلة. وأعتقد أن المنتج مازال يحاول اليوم الحصول على مبتغاه، ومازال على استعداد لدفع هذا الثمن.

* كاتب لبناني