قريباً: الرأسمالية 3.0

نشر في 13-04-2009
آخر تحديث 13-04-2009 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت إن الرأسمالية تخوض اليوم صراعاً مريراً ضد الأزمة الأكثر حِدة التي تشهدها منذ عقود عدة من الزمان. فقد أدى ذلك المزيج الفتاك المؤلف من الركود الشديد والاختلال الاقتصادي العالمي وتأميم مساحات شاسعة من القطاع المالي في اقتصاد بلدان العالم المتقدم إلى ضرب استقرار التوازن بين الأسواق والدول في الصميم. ولا أحد يستطيع أن يجزم بالتوقيت الذي قد يعود فيه التوازن إلى هذه العلاقة من جديد.

بيد أن هؤلاء الذين يتوقعون زوال الرأسمالية يتعين عليهم أن يتعاملوا مع حقيقة تاريخية مهمة: ألا وهي أن الرأسمالية تتمتع بقدرة تكاد تكون غير محدودة على تجديد نفسها. والحقيقة أن مرونة الرأسمالية وقدرتها على تغيير هيئتها من الأسباب التي يسرت لها التغلب على الأزمات الدورية طيلة قرون من الزمان والبقاء إلى ما بعد زوال منتقديها بداية من كارل ماركس. والمسألة الحقيقية هنا ليست ما إذا كانت الرأسمالية قادرة على البقاء- فهي قادرة- بل ما إذا كان زعماء العالم قادرين على إظهار الزعامة اللازمة للانتقال بالرأسمالية إلى طورها التالي بينما نخرج من مأزقنا الحالي.

إن الرأسمالية لا مثيل لها حين يتعلق الأمر بإطلاق العنان للطاقات الاقتصادية الجمعية لدى المجتمعات البشرية. ولهذا السبب فإن كل المجتمعات المزدهرة رأسمالية بالمفهوم العريض للمصطلح: إذ يدور تنظيمها حول الملكية الخاصة وتسمح للأسواق بالاضطلاع بدور ضخم في تخصيص الموارد وتحديد المكافآت الاقتصادية. والفكرة هنا أنه لا حقوق الملكية ولا الأسواق قادرة على العمل من تلقاء نفسها. فهي تحتاج إلى مؤسسات اجتماعية أخرى توفر الدعم لها.

لذا فإن حقوق الملكية تعتمد على المحاكم وأجهزة فرض القانون، والأسواق تعتمد على الأجهزة التنظيمية في السيطرة على المفاسد والاستغلال وإصلاح إخفاقات السوق. وعلى المستوى السياسي تتطلب الرأسمالية آليات التعويض والتحويل لجعل نتائجها مقبولة. وكما برهنت الأزمة الحالية مرة أخرى، فإن الرأسمالية تحتاج إلى ترتيبات تحفظ لها توازنها واستقرارها، مثل وجود هيئة تعمل كملاذ أخير للإقراض وانتهاج سياسة مالية قادرة على معادلة التقلبات الدورية. أو نستطيع أن نقول بعبارة أخرى إن الرأسمالية ليست ذاتية الخلق، وليست ذاتية الدعم أو التنظيم أو الاستقرار.

كان تاريخ الرأسمالية عبارة عن عملية من التعلم المستمر لهذه الدروس. وكان مجتمع السوق المثالي الذي أشار إليه آدم سميث لا يتطلب إلا ما يزيد قليلاً على «دولة تقوم بدور الحارس الليلي». ولم يكن المطلوب من الحكومات لضمان تقسيم العمل إلا فرض حقوق الملكية وحفظ السلام وجمع القليل من الضرائب لتغطية تكاليف نطاق محدود من المنافع العامة.

أثناء القسم المبكر من القرن العشرين كانت الرأسمالية محكومة برؤية ضيقة من جانب المؤسسات العامة التي كانت مطلوبة للنهوض بها. وفي الممارسة الفعلية كان تدخل الدولة كثيراً ما يتجاوز هذا المفهوم (كما حدث حين ابتكر بسمارك معاشات التقاعد للمسنين في ألمانيا عام 1889). ولكن الحكومات استمرت في النظر إلى دورها الاقتصادي من زاوية محدودة.

ثم بدأ ذلك الواقع يتغير مع اكتساب المجتمعات للمزيد من الديمقراطية واحتشاد النقابات العمالية وغيرها من الجماعات ضد التجاوزات والإساءات المتصورة للرأسمالية. وكانت الولايات المتحدة أول دولة تتبنى سياسات مكافحة الاحتكار. وأصبحت المنافع المترتبة على السياسات النقدية والمالية النشطة مقبولة على نطاق واسع في أعقاب أزمة الكساد العظمى.

وسرعان ما ارتفعت حصة الإنفاق الحكومي في الدخل الوطني في بلدان اليوم الصناعية، من أقل من 10% في المتوسط في نهاية القرن التاسع عشر إلى ما يزيد على 20% قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية أقامت أغلب البلدان دولة الرفاهية الاجتماعية حيث توسع القطاع العام إلى ما يزيد على 40% من الدخل القومي في المتوسط.

كان نموذج «الاقتصاد المختلط» هذا بمنزلة الإنجاز الأكبر في القرن العشرين. وساعد التوازن الجديد الذي أوجده هذا النموذج في تمهيد الساحة لفترة غير مسبوقة من التماسك الاجتماعي والاستقرار والرخاء في البلدان المتقدمة اقتصادياً، واستمرت الحال على هذا النحو حتى منتصف سبعينيات القرن العشرين.

ثم تخلخل هذا النموذج بداية من الثمانينيات، ويبدو الآن وكأنه انهار تماماً. ونستطيع أن نلخص السبب في كلمة واحدة: العولمة.

كان الاقتصاد المختلط في فترة ما بعد الحرب مصمماً للعمل على مستوى الدولة القومية، وكان يتطلب إبقاء الاقتصاد الدولي على مسافة بعيدة دوماً. واستتبع نظام الجات (الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة) الذي أسفر عنه مؤتمر «بريتون وودز» شكلاً «ضحلاً» من أشكال التكامل الاقتصادي الدولي الذي فرض ضمناً الضوابط على تدفقات رأس المال الدولية، التي رأى كينـز ومعاصروه أنها تشكل ضرورة حاسمة لإدارة الاقتصاد المحلي. وكان لزاماً على الدول أن تتعهد بقدر محدود من تحرير التجارة، مع عدد كبير من الاستثناءات للقطاعات الحساسة اجتماعياً (الزراعة، والمنسوجات، والخدمات). ولقد ترك هذا لكل دولة الحرية في بناء نسخة خاصة بها من الرأسمالية الوطنية، مادامت ملتزمة ببضع قواعد دولية بسيطة.

إن الأزمة الحالية تظهر لنا كم ابتعدنا عن ذلك النموذج. ولقد لعبت العولمة المالية بصورة خاصة دوراً تخريبياً مع القواعد القديمة. وحين التقت الرأسمالية على الطراز الصيني مع الرأسمالية على الطراز الأميركي، مع توفر عدد ضئيل من صمامات الأمان، أوجد ذلك خليطاً متفجراً. ولم تكن هناك آليات وقائية لمنع فائض السيولة العالمية من النمو. وحين اجتمع ذلك مع الأخطاء التنظيمية الفادحة التي ارتكبتها الولايات المتحدة فلم تكن هناك آليات لمنع هذا الفائض من السيولة من خلق فقاعة ازدهار هائلة في مجال الإسكان ثم انهيار تلك الفقاعة بعد ذلك. كما غابت كل حواجز الطريق الدولية التي كان من شأنها أن تمنع الأزمة من الانتشار من مركزها الأصلي.

إن العبرة المستفادة هنا ليست أن الرأسمالية قد ماتت، بل إن الأمر في الواقع يتلخص في ضرورة تجديد الرأسمالية على النحو الذي يجعلها ملائمة لقرن جديد حيث أصبحت قوى العولمة الاقتصادية أكثر عتياً من أي وقت مضى. وكما تحولت رأسمالية الحد الأدنى التي ابتكرها سميث إلى اقتصاد كينـز المختلط، فيتعين علينا أن نفكر في الانتقال من صيغة الاقتصاد المختلط إلى نظيرتها العالمية.

وهذا يعني أننا لابد أن نتخيل وجود توازن أفضل بين الأسواق والمؤسسات التي تساندها على المستوى العالمي. وقد يتطلب هذا في بعض الأحيان توسيع نطاق المؤسسات إلى خارج الدول القومية، فضلاً عن تعزيز قوة الحوكمة العالمية. وفي أحيان أخرى قد يعني هذا منع الأسواق من التوسع إلى خارج نطاق سيطرة المؤسسات التي لابد أن تظل وطنية. وسيختلف التناول السليم من تجمع للبلدان إلى آخر ومن قضية إلى أخرى.

إن تصميم الهيئة الجديدة للرأسمالية لن يكون بالمهمة السهلة، ولكن التاريخ يقف في صفنا: إذ إن السمة الطيبة في الرأسمالية هي أنها تتمتع بقدر يكاد يكون غير محدود من المرونة.

* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي بكلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top