قبل أسبوعين، وفي أضخم وأخطر تظاهرات تشهدها المنطقة، قام الآلاف من عمال الخدمات والنظافة البنغاليين، بسلسلة من الإضرابات في عدد من مناطق الكويت، مثل «جليب الشيوخ» و«الصليبية» و«الحساوي» و«المهبولة»، واستمرت التظاهرات أياماً عدة، احتجاجاً على الظروف المعيشية السيّئة، وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية، وقد أدى تغيب هؤلاء العمال عن دوامهم اليومي إلى شل الكثير من الأعمال الخدمية، وتعطيل مصالح المراجعين في المؤسسات الحكومية.

Ad

وكان أعنف التظاهرات في منطقة «جليب الشيوخ» التي استمرت يومين، ووصفتها صحيفة «السياسة» الكويتية بـ«شيكاغو الكويت»، بسبب تحولها إلى عمليات تخريب وتحطيم للمحلات والمركبات، وخطف عائلة بنغالية ومطالبة الجهات الأمنية بتنفيذ مطالبهم أو قتل الرهائن، في حين قام آخرون بخطف المسؤول عن رواتبهم وضربه، وكادت الأمور أن تتطور إلى الأسوأ لولا تدارك وزارة الداخلية الأمر واستعانتها بقوات مكافحة الشغب التي استطاعت احتواء الموقف والسيطرة على الانفلات الأمني، حيث تم تفريق المتظاهرين والقبض على الزعماء المحرّضين وترحيلهم، وقد وصف أهالي جليب الشيوخ ما حصل بأنه أشبه بحرب عسكرية، مؤكدين أن أصوات القنابل التي أطلقتها القوات الأمنية زرعت في نفوسهم الرعب.

وكادت عدوى الاضرابات تصل إلى الآخرين، فقد تم إلقاء القبض على 5 مصريين بتهمة تحريض زملائهم في شركات الحراسه للاعتصام للمطالبة برفع رواتبهم.

التساؤلات المطروحه هي: ماذا يريد العمال البنغال؟ وما الذي دفعهم إلى الإضراب؟ ولماذا ظاهرة الاعتصامات العمالية التي شهدتها دول الخليج في السنوات الأخيرة؟

مطالب العمال بسيطة ومشروعة، يريدون الإنصاف وتدخل الجهات المسؤولة في الدولة لحمايتهم من جشع «شركات الخدمة» التي تستغلهم أبشع استغلال، تعطي العامل راتباً لا يتجاوز الـ«18» ديناراً ولا تكتفي بهذا الأجر المتدني، بل تتعمد تأخير صرف الرواتب شهوراً عديدة، وليس هذا فحسب بل تستقطع 70 ديناراً لأجل الإقامة و80 ديناراً للتأمين الصحي. فماذا يبقى لهذا المطحون وسط الغلاء الفاحش في المنطقة؟ وماذا يبقى ليرسله لأهله الذين تغرب من أجلهم؟ وكيف يعوض ما دفعه من أجل «الفيزا» والقدوم إلى المنطقة؟!

يقول د. شملان العيسى: «إن هؤلاء العمال البسطاء وقّعوا عقود عمل بمرتب 40 ديناراً، وعند وصولهم وجدوا أن رواتبهم خُفِّضت إلى النصف، وأن السكن مزدحم وغير لائق، وأن فترة العمل تصل إلى 14 ساعة بالنسبة إلى بعض الشركات بدلاً من 8 ساعات حسب القانون الكويتي».

ولكن لماذا تتكرر الاضرابات العمالية؟ ولماذا يتحول بعضها إلى شغب؟

الجواب يكمن في يأس هؤلاء العمال من تلبية مطالبهم في تحسين أوضاعهم، وعدم ثقتهم في وعود المسؤولين رغم كثرتها. إذ أثبتت الأحداث السابقة واللاحقة أن الجهات المسؤولة عن مراقبة الشركات التي تستقدم هؤلاء العمال، لضمان التزامها بالعقود المبرمة مع الحكومة، عاجزة عن القيام بمسؤولياتها وغير قادرة على تطبيق القانون على تلك الشركات وذلك يعود إلى 3 عوامل:

1- معظم أصحاب تلك الشركات المخالفة ومثلهم «تجار الإقامات» من المتنفذين في الدولة ومن المنتفعين الذين لا تطالهم حبال القانون.

2- وهو الأهم، أن ظاهرة «الاتجار بالبشر» أصبحت ظاهرة عالمية معقدة ومتداخلة وتتخطى الحدود الوطنية، ولا تستطيع الجهة المسؤولة في الدولة -وحدها- أن تواجه الظاهرة ما لم تكن هناك استرتيجية عامة لمكافحة الاتجار بالبشر، يتعاون في تنفيذها كل مؤسسات الدولة، وإذا أضفنا إلى ذلك أن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة لا تساعد كثيراً في معالجة الظاهرة، أدركنا مدى صعوبة الوضع.

3- إن ظاهرة «الاتجار في البشر» أصبحت تدرّ أرباحاً فاحشة لأصحابها وللأطراف الأخرى كلها الداخلية والخارجية المتصلة بها. يوضح د. علي الطراح -عالم الاجتماع الكويتي- هذا الأمر بقوله: الدول المصدرة للعمالة دول فقيرة وعقود العمل تُصاغ بطريقة تُخضِع العامل للابتزاز، إذ عليه أن يدفع 500 دولار للشركة المصدرة في بلاده، وعندما يأتي إلى الكويت تقوم الشركة الكويتية بتشغيله في المؤسسات الحكومية بما يعادل 300 دولار، لكنها تعطي العامل 60 دولاراً فقط، بمعنى أن هذه الشركات تحقق أرباحاً هائلة من التجارة في هذه العمالة.

وقد قدرت منظمة العمل الدولية أن الأرباح وصلت من هذه التجارة إلى ما يقارب 30 مليار دولار، وتعتبر جريمة الاتجار بالبشر ثالث جريمة في العالم بعد جريمتي المخدرات والسلاح، لكن الكويت ليست وحدها التي تعاني الإضرابات العمالية، إذ تكررت في أكثر من بلد خليجي في الآونة الأخيرة للمطالبة بتحسين ظروف العمل وزيادة الرواتب، ففي العام الماضي بدبي، قامت مجموعة من العمال باغلاق الطريق الرئيس المؤدي إلى «جبل علي» ورمي السيارات بالحجارة، مما أوجب تدخل قوات مكافحة الشغب لتفريقهم، علماً بأن رواتبهم كانت تتراوح بين 600–1000 درهم شهرياً.

بسبب هذه الاحتجاجات والأوضاع المعيشية السيئة للعمالة الوافدة، أصبحت الدول الخليجية، عرضة لتقارير المنظمات الحقوقية الدولية، والتقرير السنوي للخارجية الأميركية، الذي يصنف دول العالم طبقاً لجهودها في مكافحة «الاتجار بالبشر» وفق 3 فئات، أدناها «الثالثة» الخاصة بالدول التي لا تحقق تقدماً في هذا الشأن، وتضم 16 دولة، منها الدول الخليجية، ما عدا دولة الإمارات التي خرجت من اللائحة السوداء إلى الفئة الثانية بسبب نجاحها في مكافحة «الاتجار بالبشر» عبر استراتيجية تقوم على 4 ركائز: التشريع القانوني المتكامل (أصدرت أول قانون عربي لمكافحة «الاتجار بالبشر»)، وتفعيل القانون، ودعم الضحايا، والتعاون الدولي، وقد وصف التقرير دولة الامارات بـ«القدوة» في المنطقة.

لقد دأبت دول الخليج على سياسة «الإنكار» لما يرد في التقارير الدولية بشأنها بحجة «التسييس» و«المغالطات» و«ممارسة الضغوط»، وترديد مقولة لو كانت الاتهامات صحيحة، لما تسابقت تلك العمالة إلى بلادنا، وكل ذلك غير مجد ٍفي عالم مفتوح يسمع أنات وصرخات هؤلاء البائسين، والأجدى الاعتراف بالمشكلة، وعدم التهرب من المسؤولية فليس في الأمر ما يعيب، وأميركا نفسها تعترف بالمشكلة لديها، لكنها في المقابل تبرز جهودها في الحد منها.

علينا التخلص من النظرة التشكيكية في التقارير الدولية، وكفانا أوهاماً تآمرية، فذلك دليل عدم ثقة بالذات، ولا يحل المشكلة.

علينا إبراز الجهود الخليجية المبذولة في معالجة هذه الظاهرة، سواء على صعيد إعداد التشريعات القانونية، أم على صعيد الإجراءات العملية لتحسين الأوضاع المعيشية للعمالة -دبي أنشأت أخيراً أضخم مدينة عمالية 5 نجوم تتسع لـ87 ألف عامل- أم على صعيد محاسبة الشركات المسيئة وتجار الإقامات، فذلك ما يحسن صورتنا الخارجية.

التقارير الدولية الراصدة لأوضاعنا الداخلية، تصب في مصلحتنا ومصلحة تعزيز الحقوق والحريات، وهي في النهاية تتسق وتعاليم ديننا في احترام كرامة الإنسان، فعلينا ألا نخشاها أو نخجل منها أو نرتاب فيها.

الكويت وعت الدرس العمالي، وبادرت إلى اتخاذ قرارات حاسمة ضد المتاجرين المسيئين، إذ قال نائب الأمير «حاربوا تجار الإقامات ولا يردكم ولد شيوخ أو تاجر، واقطعوا اليد العابثة بالكويت»، وقد أغلق زلزال العمالة شركتين لنائب وشيخ، وتم اعتماد الحد الأدنى للأجور بـ«40» ديناراً لعمال النظافة و«70» للأمن والحراسة، وهذا هو الحل العملي السليم، أما الإنكار والتجاهل فانهما كفيلان بتحويل المشكلة العمالية إلى ما هو الأخطر من النووي على الخليج، كما قال وزير العمل البحريني.

*كاتب قطري