نافورة ساحة السباع
هلْ بدأتْ مخاضةُ الدماء العراقية تجفّ، والطرقُ تبدو سالكة.
في الانترنت رأيت سلسلة صور فوتوغرافية لـ«ساحة السباع» في منطقة الشيخ عمر، في بغداد. تابع المصور عودتها إلى الحياة، بعد أن طمرتها النفايات وتراب السنوات التي خصّها صدام حسين بالخراب والموت. الصور تتابع السعي الى إزالة النفايات، ثم ظهور هيئات الأسود الأربعة، وهي تحمل على الظهور النافورةَ الاسمنتية المدوّرة، ثمّ بِدء العناية بالمعمار الفني للساحة، ثمّ للأسود، ثم لقاعدة الحوض السيراميكية. وبقي تفجر الماء من النافورة مؤجلاً، وكأن الساعين إلى الأمام يرون في تدفّق الماء رمزاً للعراق العامر المُنجز، والعراق بعدُ في مسعاه المجاهد المبلل بالعرق والدموع. لقد حُطّم أعتا معقل للدكتاتورية العربية، فشكراً لمن أعان في هذا المسعى، وقد كان مستحيلاً. ولقد حلّ قيادُ الحكم في يد الأكثرية التي كانت مُستضعفة، فشكراُ لمن أعان في ذلك، وقد كان أكثر استحالةً. ثمّ جُنَّ العراقيون بالحرية، والثروة الوطنية. وحلّ العبثُ بكليهما. وفي غمرة العبث وجدت أنفاسُ الدكتاتورية وقواها البعثية والاستخباراتية مُتّسعاً للتنفس، واستعادة القوة، فظهرت على الناس في هيئة سلفيين، ومقاومي احتلال، وطامعين في استلام القياد، لكن العراقيين رأوا في هذا الإرهاب الجديد قوةً تاريخية، مقارنة بإرهاب الدكتاتورية الذي بدا لهم أبدياً. والتاريخي سهلُ الزوال، فسعوا إلى ذلك، وشكراً لمن أعانَ في هذا المسعى. وبدا العراقيون منقسمين اليومَ إلى شطرين، ولا أريد أن أُحددَ نسبة كلٍّ منهما: شطرٌ ينتظرُ تدفق الماء من نافورة «ساحة السباع»، وآخر يصرخ في مكبرات الصوت بشعاراته المتوارثة ضدّ الاحتلالِ، والعملاء، والإمبريالية الأميركية. الأولُ رأى بمسعاه، وبعينيه سقوط الدكتاتور والذي أسقطه، وكيف استعادت «ساحة السباع» قواها الأولى، والثاني يرى في كلّ هذا مؤامرة خبيئة، يعدّ لها «الشيطان الأكبر» و«عدو الشعوب». وكلٌّ له مصلحته، بالتأكيد. وأنا مع مصلحة المستضعَفين، ضحايا صدام حسين، حتى لو كانوا نفراً واحداً، فالشاعرُ الذي يسكنني، يسكنُه، والإنسانُ الذي يسكنُه، يسكنني. بدت المفخّخاتُ والمفخّخون أقلّ فاعلية، وبدا الناس أكثر استرخاءً في كراسيّ مقاهيهم، وأمام كؤوسهم، كثُرت الصحف حتى فاقت كثرةَ لندن، محطات الراديو والتلفزيون تتكاثر كالأرانب، الأموالُ، على مرأى ومسمع من مصالح الغرب، تتدفق لمزيد من مشاريع العمران، بيد عراقية أعيد جسر الصرّافية الحديد، ونصب كهرمانة. صور العمائم السود بدأت تعود إلى معتَزلها الديني الجليل من ملصقات السوق، الكتابة العراقية تودّع آخر شوائب الوهم: النضال ضد الأعداء. والذي بقي منهم بقي تشبّثاً بالموضوع الذي لا يملك غيره، القادمون يملكون أكثر من موضوع جديد لا إيهام فيه، الشاعر الذي عاش على مجد نضاله الوهمي يرى بضاعته كاسدة، يلملمها ويذهب بها إلى الإعلام العربي، ففي هذا الإعلام سوقُه الرائجةُ اليوم. وحذراً من كسادها هناك أيضاً، يطفر بها البحار إلى الإعلام الثقافي الغربي، الذي يطرب لأوهام المناضلين. فصورة المناضل الثوري التشيفاري لديه أليق ببوسترات الإعلان، واستثارات سوق الإعلام النفعي. العراق سيدخلُ السوق، ويتبادل المصالح. خَبَرَ التاريخ وسيعرف بعمق أن الإنسان أسمى من الفكرة المجرّدة، والتطورَ العضوي أسمى من الثورة، والعقلَ من الجنون. وأن الحرية لا تتزن إلا بالقانون. هذا أملٌ تتزاحمُ فيه الأماني بالتأكيد. حين أرى محطّات التلفزيون العراقية، ومواقع الصحف الإلكترونية، والمواقعَ الشخصية، أبصرُ فوضى حادة الطبع، ومواقفَ حادة المزاج. ولكني أبصر، إذْ أحدق في الثنيّات والأعماق، مزاجَ فنان لمْ يُنصفه التاريخ، فنان لم يحصل على ثمرة من مردود بستانه الوفير، فنان كم يشبه السياب الواهن العظم الرثّ الهيئة، وهو يقف على أعتاب بهو الثقافة العربية المُضاء بالنجوم، ولا يجرؤ على الدخول. حين كنتُ أصغي لهتّافي الإعلام العربي في أن هذه الديمقراطية التي تُفرضُ على العراقيين غريبةٌ غربية، كنت أتمثّل السياب في عظمه الواهن وهيئته الرثّة غير اللائقة، وهو يقف على أعتاب بهو الثقافة ذاك، وكأن الديمقراطية طبعٌ لا تطبّع، وأنها فطرة لا تُكتسَبْ، وأنها غير ملائمة، في النهاية، للإنسان العربي. أستعيد ثانية صورَ «ساحةِ السباع» بالأسود البيض، والأرضية السيراميكية، لعلّ المياه تتدفّق من النافورة الآن، وأنا لا أعرف!