يوليو

نشر في 18-07-2008
آخر تحديث 18-07-2008 | 00:00
 محمد سليمان لم يبقَ من عهد عبدالناصر وثورة يوليو سوى بعض الأناشيد والأغاني الوطنية والسد العالي، الذي لم يتحدث أحد- على الأقل حتى الآن- عن بيعه أو خصخصته، ربما لأنهم مازالوا مشغولين بتصفية بقية الشركات والبنوك والمصانع، وبيع الأراضي، وطرد الفلاحين من حقولهم، والفقراء من منازلهم، لتمكين بعض ورثة الإقطاعيين من أملاك أجدادهم أو لإقامة منتجعات عليها للأثرياء والكبار.

هل يحق لنا مقارنة «يوليو القديم» الذي كان عبدالناصر يحدثنا فيه عن مجمع الحديد والصلب الذي أقيم في حلوان، بـ«يوليو» امبراطور الحديد أحمد عز، ذلك الملياردير الذي كدّ واجتهد وتمكَّن في الفترة الأخيرة من نقل «الحديد» من قائمة مواد البناء إلى قائمة «المعادن الثمينة» التي يسعى وراءها اللصوص، ويشكلون عصابات مهمتها اقتلاع قضبان السكك الحديدية وبوابات المنازل وأغطية البلاعات وكل شيء له علاقة بالحديد.

قبل أربعة أعوام، عندما كان الحديد حديداً، زوّدنا منزلنا بباب حديدي عظيم لحراسة شققنا بعد أن تجرّأ اللصوص واستطاعوا إفراغ شقة جارٍ لنا من محتوياتها كلها. والآن بعد أن صار الحديد معدناً ثميناً وهدفاً لعتاة اللصوص القادرين على انتزاع الحديد من أجسامنا وإصابتنا بالأنيميا... صار علينا أن نحرس الباب ذاته.

في صباي كان يوليو، رغم قيظه وقسوته، شهراً عظيماً وسخياً ننهي فيه حصاد القمح وتخزين ما يكفي الأسرة منه على مدار عام وبيع بقية المحصول، وكان أيضاً شهراً تُولد فيه المصانع الجديدة والأناشيد والعروض الفنية والعسكرية التي كانت تُنسينا حرارة الصيف وقسوته... هل هناك وجه للمقارنة بين يوليو القديم وهذا الجحيم الذي يحيط الآن بنا؟

قبل أيام زرت قريتي لأجد أزمة الخبز تحاصر الجميع رغم انتهاء موسم حصاد القمح، ولكي أجد أصدقاءنا الصينيين يجوبون الشوارع بحقائب كبيرة محشوة بالملابس الرخيصة ومسلحين بالتحية التي يقدرها الناس في القرى «السلام عليكم»، والتي تفتح باب الحوار وعرض بضائعهم ثم المساومة. فالقروي قبل شراء شيء ما يساوم ويقاوم ويظن العالم كله يتآمر عليه ويخطط لاقتلاع قروشه القليلة من جيبه. وقد عرف الصينيون ذلك فتسلحوا بالصبر وتعلموا أيضا فن الحوار والمساومة.

في صباي كنت مغرما بمتابعة ومرافقة المطربين الشعبيين الذين كانوا يجوبون القرى لإحياء حفلات الزفاف بعد حصاد القمح أو جني القطن، ومازلت أذكر بعض المواويل التي سمعتها في أواخر الخمسينيات وأنا في العاشرة من العمر تقريباً، وكان المطربون يزهون بالملابس المصرية ويفخرون بشركات الغزل والنسيج في مدينة المحلة:

«اسمي ابو الخير وكل الخير من بلدي

بكره أروح المحلة أجيب حلة حرير بلدي

ما رضاش بصوف أجنبي وأرضى بخيش بلدي»

لكن ذلك كله ينتمي إلى يوليو الصبا والطفولة عندما كنا نزرع القطن ونزهو به ونسميه الذهب الأبيض في الخمسينيات والستينيات. كفّت قرانا عن زراعة القطن منذ عشرين سنة، وغزت الملابس الصينية منازلنا، وقد جاء في صحفنا أن مساحة الأرض التي زُرِعت قطناً في مصر هذا العام هي الأقل منذ مئة وثلاثين سنة... أي في نهاية عهد الخديوي إسماعيل وسيطرة الوزراء والمفتشين الأوروبيين على سياسة مصر.

لا أحب الصيف، لأنه فصل الكسل والخمول والبلادة، ولا أستطيع كما أقول في احدى قصائدي كتابة قصيدة فيه. وهو أيضاً فصل حروبنا وهزائمنا وانشقاقتنا الطائفية، لكنني كنت ومازلت استثني «يوليو»، واعتبره شهراً كريماً ممطراً وأباً للعام كله، ربما لأنه كان في أيامنا الأولى شهر القرارات المنحازة للكادحين والبسطاء والحالمين بمستقبل أفضل:

«لم يعد يوليو سخياً مثل عيد الفطرِ

يعطي الناس أجنحة ويدفعهم إلى الطيرانِ

كنا في صباح جامح نأتي من الأطراف كي نغزو

وكنا تحت قوس النصرِ نعلو فجأة ونعود أكبر للقرى

كنا....

ويوليو كان في أيامنا الأولى أبا للعام مقتدرا

وشهرا ممطرا

لم تكن مثلي تغني الريحُ أو مثلي يطير الصقرُ

أو مثلي يدور النهر في الوادي

تغيرنا... تغيرنا... كبرت أنا

كبرتُ... وكرّت الأيام كالأرقامِ واختلفت بلادي

أصبحت... مجرد حفرة في الأرضِ أحيانا

وكلﱠ الأرض أحيانا

وأحيانا دخانا».

*كاتب وشاعر مصري

back to top