في الماضي كانت للمجتمع هوية اقتصادية، فهناك التجار وهناك الطبقة الكادحة، والاثنان اشتركا بالاجتهاد والقناعة والرضا في الرزق والنصيب، بينما الآن الغني- قبل الفقير- «ما يترس عينه شي» وبينما كان الفقير في الماضي يغيب شهوراً لكسب رزقه، أصبح فقير زمننا الحاضر فقيراً لأنه يمتلك بيتاً من ثلاثة طوابق وأربع سيارات ويستغرب من عدم قدرته على دفع أقساطها!
يستمر انقضاض التيار الديني على الرأسمالية عبر حشر الدين في الأزمة المالية العالمية واختزال أسبابها في الربا والغضب الإلهي بسطحية مضللة ومهينة لعقل القارئ، وتحميل الرأسمالية وزر الظواهر السلبية التي يتسم بها المجتمع. حسناً، فلنقارن بين إمارة الكويت الرأسمالية قبل النفط عندما كانت وسائل إنتاج وتوزيع السلع وتقديم الخدمات وإدارتها متروكة للقطاع الخاص، والأسعار والأجور تخضع للعرض والطلب والمنافسة المفتوحة، وكان حجم الجهاز الإداري للحكومة صغيراً مهمته الإشراف وجباية الضرائب، وبين دولة الكويت الاشتراكية الحالية بعد أن استحوذت الدولة على وسائل الإنتاج والتوزيع والخدمات وأصبحت رب العمل المهيمن، وأصبح جهازها الإداري متخماً بالبيروقراطية. دعونا ننظر إلى تبدل كثير من الظواهر الاجتماعية بين الحقبتين. لقد اكتسب المجتمع الكويتي صفة الإبداع المعهودة به في الماضي لأنه لم يكن هنالك حدود في ممارسة العمل الحر، فأبدع العامل في الصناعة والغوص والصيد، وأبدع التاجر وبلغ نشاطه الهند وإفريقيا، ولم يتبق من ذلك الإبداع شيء الآن إلا في الجوانب الرأسمالية من الاقتصاد كالقطاع الخاص، أما قطاعات الإنتاج والخدمات التي استحوذت عليها الدولة فهي تتنافس في الفشل الإداري وانعدام الكفاءة والفساد. في الماضي، لم يجزع الشاب الكويتي آنذاك من العمل مراسلاً أو كاتباً أو غواصاً لدى «معزبه» التاجر قبل أن تصبح كلمة «معزب» عاراً في زمننا الحاضر، وفي المقابل لم يواجه التاجر آنذاك صعوبة في الوثوق بقدرات الشاب الكويتي وتأمينه على حلاله، فقد كان ذلك قبل شيوع صفات الاتكالية والكسل وعدم الالتزام والمسؤولية عن الموظف الكويتي في زمننا الحاضر. في الماضي لم يعب الكويتي أن يكون بائع ثلج وصانع أحذية وراعي أغنام، بينما يترفع الآن عن تلك الحرف لأن «برستيجه» لا يسمح له. في الماضي كانت الصفقات تتم بين التجار بضمان الكلمة والثقة، فالبضائع تباع وهي في وسط البحر وتتم «البيعة» حتى إن «طبع المحمل،» بينما الآن وبعد دخول المال العام والنفوذ في المعاملات التجارية نتيجة هيمنة الدولة على معظم نواحي الاقتصاد، أصبحت عرضة للنصب والاحتيال والتنفيع.في الماضي كانت للمجتمع هوية اقتصادية، فهناك التجار وهناك الطبقة الكادحة، والاثنان اشتركا بالاجتهاد والقناعة والرضا في الرزق والنصيب، بينما الآن الغني- قبل الفقير- «ما يترس عينه شي» وبينما كان الفقير في الماضي يغيب شهوراً لكسب رزقه، أصبح فقير زمننا الحاضر فقيراً لأنه يمتلك بيتاً من ثلاثة طوابق وأربع سيارات ويستغرب من عدم قدرته على دفع أقساطها!لا أزعم أن تلك الظواهر والقيم تعود بأسبابها إلى النظام الاقتصادي السائد وحده، ولست من مناصري فكرة الرجوع إلى العصر الذهبي، ولكن مادام التيار الديني انتهازياً وانتقائياً ومضللاً في تحليله للأزمة المالية، فمن فمه ندينه.يقول العم عبدالعزيز الشايع في إحدى المقابلات إن معظم رجال الأعمال الأوائل بدأوا العمل كمراسلين وكتبة عند «معازيبهم» من تجار كويت الماضي، إذ باحتكاكهم بهم اكتسبوا الخبرة، وبأمانتهم اكتسبوا الثقة، ففتحت لهم أبواب الثراء والعيش الكريم. هكذا كانت الكويت عندما كانت رأسمالية، وهكذا كانت قيم مجتمعها، كانت بلد إبداع وعمل، ولكل مجتهد فيها فرصة. ذلك عندما كان رأس المال متداولاً بين الناس وليس أحرص منهم عليه سواهم، قبل أن تهيمن الحكومة عليه وتستغله في التنفيع وشراء الولاءات، وتقتل الإبداع وترسخ الكسل والاستهلاك عند الناس.Dessertوزير التجارة أحمد باقر صرح في ندوة «إحياء التراث» بأن الربا وراء الأزمة المالية. هل لنا أن نعتبر ذلك موقفاً حكومياً رسمياً؟
مقالات
كويت الرأسمالية والزمن الجميل
23-10-2008